لحاجة صافية خمسينية، حافظة لكتاب الله، ومتفقِّهة في علوم الدين، كانت ضمن النسوة المرافقات لحملة (العصبة) الآتية من اليمن في طريقها إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج في الستينات الهجرية، والتي قد يصل عددها أحياناً إلى (50) ما بين رجال ونساء، ويطلق عليها آنذاك (العصبة) ولها مسؤول يُشرف على مسيرتها، وشؤونها السفرية، وشيخ على قدر من العلوم الدينية، يرجع إليه في مسائل الحج والعمرة وما في حكمها، وشخص يسمونه (الحكيم) لديه خبرة ودراية في الطب البديل، ووسائل تنقلاتهم وأمتعتهم في الرحلة هي (الحمير) أكرمكم الله، والمشهورة بقوة الأجسام وتحمل المشاق والمدربة على الأسفار البعيدة، والوعرة.
ولهذه الحملة خلال مسيرتها مواقف في بعض أمكنة الطريق، تقضي فيها بعض الوقت للراحة من عناء الطريق، وعادة ما تكون هذه المواقف قريبة من القرى ومصادر المياه، ممّا يسهل عليهم شراء ما قد ينقصهم من الاحتياجات الضرورية، ويوجد بين أفراد هذه المجموعة من لديهم (بضائع) يسوقونها أثناء رحلتهم على سكان القرى التي يمرون بها، كالملابس الرجالية والمستلزمات النسائية من روائح عطرية وألبسة وحلي وغيرها من المستلزمات المتنوعة الأخرى ؟
وفي أثناء الطريق، أصيبت الحاجة صافية بحمى الملاريا نتيجة لاختلاف الأجواء والتضاريس، ورغم اجتهاد حكيم الرحلة في إعطائها الإسعافات الأولية، إلا أنها أخذت في التزايد، وخلال موقف الحملة، قررت الحاجة صافية عدم مواصلة الرحلة لمرضها، وعدم قدرتها على مواصلتها، ممّا ألجأ مسؤول الحملة، لشيخ القرية القريبة منهم، بطلب إيوائها لديهم، ريثما يعودون من أداء فريضة الحج، فوافق شيخ القرية بعد تفهمه لحالتها، وخصص لها السكن المناسب في القرية، والعاملة التي تقوم على خدمتها وتمريضها، وقوبلت من أهالي القرية وشيخها بالرعاية الفائقة انطلاقاً من شيم العرب والمروءات التي جُبلوا عليها، من حيث إكرام الضيف والحفاوة به في حله وترحاله؟!
وحرصاً من مسؤول الحملة في التعريف بهذه المرأة، والمكانة التي تحتلها في قريتها، قال لشيخ القرية: الحاجة صافية حافظة لكتاب الله ومتفقِّهة في علوم الدين، ولديها مدرسة نسائية لتعليم القرآن، وحفظه، ونشر علوم الدين بين نساء وفتيات القرية بالمجان، أنشأها والدها -رحمه الله- في جزء من دارهم المجاورة لمسجد الحي كمبرَّة لوالديها، ونذرت نفسها لهذا العمل الخيري، والعزوف عن الزواج مدى الحياة، إحتساباً لما عند الله من الأجر والثواب، ورداً لجميل والديها عليها في تعليمها هذا العلم النافع دنيا وآخرة، وتأسياً بالحديث: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)).
وغادر مسؤول الحملة منزل شيخ القرية بعد اطمئنانه بأن وديعته باتت في الحفظ والصون، وتحت إشراف أيدٍ أمينة، وواصل هو ورفاق الحملة المسيرة إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، سائلين الله أن يعودوا وقد منّ الله على رفيقة دربهم الحاجة صافية بالشفاء.