كنت في سيارة ومعي المصور السائق الباكستاني رانا -رحمه الله- في مهمة صحفية في أحد وديان منطقة الباحة. ولما أكملنا لقاء الناس الذين انتدبتنا الصحيفة سعودي جازيت لمقابلتهم ،عدنا من “بني كبير” إلى مدينة بلجرشي عصرا ،ومنها بدأنا رحلة الهبوط إلى تهامة. وفيما كنا نسير بالجيب ،تلبّدت السماء بالغيوم وبدأت الأمطار تهطل. لكننا وصلنا بسلام إلى المخواة التي كانت أقرب إلى القرية منها إلى المدينة. وسبب ذلك أن الخدمات الهاتفية لم تدخلها بعد. وفي المخواة قررت الاتصال بجدة لطمأنة الأهل أننا سوف نصل متأخرين في الليل بسبب السيول التي بدأت تنحدر من جبال الباحة إلى وديان تهامة.
قيل لنا إنه لا يوجد هاتف إلا في مكتب الشيخ حسن العمْري ، وهو أحد الوجهاء هناك. أوقفنا سيارتنا قبل المغرب. وترجلنا من الجيب وصعدنا إلى الدور الأول في مكتب الشيخ العمري.
وهناك واجهنا رجلاً كثّ اللحية أبيضها. لا نعرفه من قبل إلا في تلك الساعة. سلمنا وقوفا، فقال: تفضلوا اجلسوا. جلست حيث أشار إلي وشرحت له طلبي. فقال عندي تلفون لكني لا أسمح بالاتصال به إلا بشرط. فسألت: اللهم اجعله خيرا ما هو الشرط. قال: العشاء عندي. حاولت الاعتذار وأننا مسافرون وسوف نبيت الليلة في جدة. فقال: هذا آخر كلام. الهاتف مقابل أن تتعشى أنت ورفيقك ضيوفا عندي. قلت : لكن الشمس لا زالت في الأفق ووقت العشاء لا زال بعيدا. قال: لا داعي للنقاش. تريد الهاتف أهلا وسهلا والعشاء بعد ذلك. وإلا فلا. فوافقت وفي ظني أني بعد العشاء سوف نواصل رحلتنا إلى جدة.
وحسب الاتفاق اتصلت هاتفيا بجدة وأبلغت الأهل أني سأتأخر ثم نفذنا الشرط اللازم. وبعد صلاة العشاء في المسجد دعانا إلى منزله القريب وبسط لنا مائدة عشاء فيها ما لذ وطاب من لحم وأرز وخبز الطاوة وعسل وأنواع من الإدامات وفاكهة وحلوى. ثم اختتمنا العشاء الشهي بالشاي. ولما استأذنت في الانصراف، قال: في هذا الليل البهيم هل يسافر أحد؟ وأضاف: سفرك في هذا الوقت نحو 400 كيلو متر خطر عليك وعلى رفيقك فلا آمن عليكما من السيول. استقرا وارقدا في هذه الغرفة فهي مخصصة للضيوف تنامان فيها والصباح يصير خير.
وللآسف لم يكن عندي ما أهديه من متاع الدنيا للكريم ابن الكرام. وفي الصباح وجدناه قد أعد مائدة عامرة لنفطر منها. ولم يكن عنده من ضيوف سوانا. فهذه أريحية العربي الأصيل فهو لم يعرفنا من قبل ولا ينتظر منا نعمة تُجزى.
بعد ذلك انتشرت الخطوط الهاتفية وأصبحت المخواة مدينة لا قرية. وتعلمنا منها مكارم الأخلاق.
يا شيخ حسن لقد وقع في حدسي أنك إذا لم يحل في دارك ضيف ، فلن يطرق النوم عينيك.