.. بعد عودة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين إلى القاهرة ،أجرى معه الصحفي والشاعر الكبير الأستاذ كامل الشناوي حواراً نشرته مجلة آخر ساعة في عددها الصادر بتاريخ 16 فبراير سنة 1955م. وسأله كامل الشناوي: علمت أنكم سافرتم إلى المدينة المنورة في طائرة صغيرة خطرة، مع أنكم لا تركبون الطائرات أبداً، وسبق أن رفضتم دعوات مهمة جداً لأمريكا وروسيا والهند لأن تلبيتها كانت تستلزم ركوب الطائرة، ولم تلبُّوا حتى دعوات ابنتكم وصهركم لزيارتهما وهما في أي منصب في السلك الدبلوماسي في أي بلد لهذا السبب؟
فأجاب الدكتور طه حسين : لم يكن من الممكن أن أتخلَّف عن هذه الزيارة، ولم تكن هناك طريقة أخرى غير الطائرة، كنت أحس أنه لا بد لي من زيارتها، لولا خوف الغرور لقلت إنها كانت دعوة من خارج نفسي دعوة آمرة.
ويستفهم كامل الشناوي: دعوة آمرة؟..ويقول طه حسين: دعوة آمرة لا بد أن تلبّى. لقد قال لي الأستاذ أمين الخولى: “إن الطريق البرِّي إلى المدينة مقطوع بسبب السيول الغزيرة التي هطلت هذا العام. ألا تؤجل زيارة المدينة هذه المرَّة؟ فقلت له: “لن أغفر لنفسي أبداً. شوقي إلى هذه الزيارة يتزايد منذ أكثر من سنتين”… ! وحين سأله كامل الشناوي كيف كان شعورك وانت في هذه الاماكن المقدسة ،أطرق الدكتورطه حسين ومسح جبينه بيده وكأنما يحاول أن ينفض عن رأسه غبار بعض الذكريات وقال : “لقد سبق أن عشت بفكري وقلبي في هذه الأماكن المقدسة زهاء عشرين عاماً – منذ بدأت أكتب “على هامش السيرة” حتى الآن- ولما زرت مكة والمدينة ،أحسست أني أعيش بفكري وقلبي وجسدي جميعاً . عشت بعقلي الباطن، وعقلي الواعي ، استعدت كل ذكرياتي القديمة، ومنها ما هو من صميم التاريخ، ومنها ما هو من صميم العقيدة ، وكانت الذكريات تختلط بواقعي، فتبدو حقائقا حيناً ورموزاً حيناً، وكان الشعور بها يغمرني ويملأ جوانب نفسي”.
ولما سئل: هل أخرجك هذا الشعور عن المألوف؟ ابتسم وقال: “على أي حال لم أصل إلى درجة الانجذاب، كنت دائماً في كامل وعيي، أخذتني الرهبة والخشية والخشوع كل مأخذ عندما كنت وحدي”.
وفي إجابة على سؤال آخر ،عبر الدكتور عن طه حسن مشاعره الأولى حين حلّ بهذه الأراضي فقال: “أول ما شعرت به وما زلت أشعر به إلى الآن هو الذي يجده الغريب حين يؤوب بعد غيبة طويلة جداً إلى موطن عقله وقلبه وروحه بمعنى عام”،وحين غادر الدكتور طه حسين مدينة جدة قاصداً البيت الحرام ،قام بالتنبيه على مرافقة أن يتوقف بالركب عند الحديبية، فلما توقفوا عندها ،ترجّل وقبض من تراب الحديبية قبضة فشمّها ثم تمتم ودموعه تنساب على التراب قائلاً: “والله إني لأشم رائحة النبي محمد –صلى الله عليه وسلم- في هذا التراب الطاهر”. ثم مضى الركب في طريقه حتى دخل الحرم الشريف من باب السلام، والدكتور لا يكاد يخفي وجد إيمانه عن رفيقه، وتوجها إلى الكعبة فتسلم الحجر وقبّله باكياً واستمر يطوف ويسعى في خشوع ضارع وبكاء خفي.
يقول أمين الخولي صاحبه في تلك الزيارة: “حين استلم طه حسين الحجر الأسود ظل يتنهّد ويبكي ويقبّل الحجر حتى وقفت مواكب الحجيج انتظاراً لأن يغادر هذا الأديب الكبير المكفوف مكانه، ولكنه أطال البكاء والتنهيد والتقبيل، ونسي نفسه فتركوه في مكانه وأجهشوا معه في البكاء والتنهيد” !
وعن ذكرياتها معه ، تقول السيدة سوزان زوجة الدكتور طه حسين في كتابها (معك) عن أثر هذه الرحلة في نفسه:“وما كان يواسيه شيء لو لم يتمكَّن من رؤية المدينة المنورة، وأعرف كم كان متأثراً عندما يقول لي: حقاً إن الإسلام دين الصفاء والتسامح” رحم الله عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين الذي لايزال يتمتع بعد رحيله بحضور فاعل في الوجدان الثقافي العام، بمواقفه وآرائه وكتاباته ومعاركه الأدبية، ورؤيته النقدية.