البلاد ــ الطائف
يحمل شهر رمضان المبارك لصائم القرية والمدينة دلالات اجتماعية وثقافية ذات مشاهد حيّة، مصدرها عادات الأجداد الحاملة للقيم المتوارثة، حيث يتشبث الصائم في مدن وقرى المملكة بالعديد من هذه القيم والتقاليد الراسخة؛ التي نقلت إليه من جيل الأمس إلى جيل اليوم، وما يجده الصائم من أهمية قصوى لهذا الشهر الفضيل، تتجلى فيه إحياء موروثه الأبدي الذي حافظ عليه منذ عدة قرون .
وتبرز العادات القديمة؛ التي يحملها أفراد وعوائل القرية والمدينة ،ومن بينها التحضير لاستقبال شهر رمضان المبارك، وعمليات التنظيف الشاملة لمنازلهم ومحيطها، وكذلك تشجيع الأطفال على الصيام والاحتفال باليوم الأول لصيامهم، إضافة إلى إعداد الأطباق التقليدية المحلية التي تنقل وصفاتها من الأم إلى البنت الفتية، والتي يتم تذوقها على موائد كل إفطار؛ في تميز مغاير عن الأطباق الأخرى مع الحفاظ على طريقة تحضيرها؛ لضمان جودة المذاق والنكهة اللذيذة.
ويحظى رمضان القرية، ورمضان المدينة، بتنوع الاختلاف في العادات والتقاليد الحميدة، وكذلك في جوانب إشغال ساعات أوقاتهم في أمتهان أعمالهم اليومية، ومن ثم موازنتها، والتفاضل في أولوياتها، وصولاً إلى جودة الجوهر، ومقدار الإخلاص في تنظيم العمل وجعل الأولوية للأهم؛ وتأجيل بعض الأعمال، التي يمكن تأجيلها إلى ما بعد الشهر، لما فيها من مشقة وخصوصًا التي تتطلب الجهد البدني.
وتتحضر منازل القرية في أول يوم من الشهر الفضيل بالزينة والمصابيح، المكسوة بالجمال الريفي المستنبت من العبق الساحر في نفوس الناس؛ إذ تتصافى القلوب، وتتآلف الأرواح، ويركن كل منزل في السهل والوادي والجبل إلى توسيع جغرافية الإحسان، والمعروف، وفي بزوغ فجر اليوم الأول من رمضان، تبدأ رحلة أبناء القرية في أعمالهم ومهامهم من خلال مزارعهم الغناء متفقدين فيها معيشة أنعامهم؛ التي فيها بعض مأكلهم ومشربهم، أو مهام بناء الجدران ونقل الحصى والأخشاب أو ردم حفرة صافحتها الأمطار والسيول، أو إصلاح مجرى الأفلاج لترتوي أشجارهم المعمرة، في حين تلامس مسامعهم أصوات الريف الشادي بتراثه العتيق وعبق جماله الآسر، وحرص آبائهم في محيط القرى بحصاد نتاج الزراعة، ونقل بعض ثمار نباتاتها من بيتٍ إلى آخر، حتى يتأكدون بفيض الخير لغيرهم.
كما يأنس طفل القرية والمدينة في المملكة قبل غروب الشمس بمهام الأمهات الموكلة إليهم من خلال توزيع الأطباق الشهية للآخرين، المحملة بالود، والتراحم، وحسن الجوار في نسيج اجتماعي منقطع النظير، متنقلة من بيت إلى بيت؛ لتقطع سبيلها بالطعام الطيب، والشراب الألذ؛ ليغدق الميسور على المعسور، ويصبح طعام البيت الواحد، طعام القرية والمدينة جميعها، كما لا تغفل العائلات والأسر عن تبادل الزيارات الليلية بعد جموع صلاة العشاء والتراويح بين الأقارب والجيران؛ تحتضنهم قبة مجالسهم الرمضانية المتأصلة، بأصالة نفوسهم الطيبة، فبينهم وبين مجالسهم علاقة وثيقة لم تغيرها السنين، بل إنها مازالت تحافظ على ثباتها في صور وأشكال مختلفة، وتظل أبوابها مفتوحة على مصراعيها طيلة الشهر الفضيل لترسيخ قيم التضامن واللمة العائلية والجيرة التي تسودها النسائم الروحانية.
وتفاضلت مجتمعات القرية والمدينة في تنافس عاداتها وتقاليدها الأصيلة، التي تغلفها المحبة والألفة وأمسيات تسامر الأهل، ومبادرات التكافل وأعمال البر التي تعم الأجواء الرمضانية؛ إذ يحرصون كذلك في تحفيز أطفالهم على فريضة الصيام، والتي تتوج بتقديم الهدايا لهم، مصحوبة بأنواع من الحلوى والكعك؛ لتعزز أسس تماسكهم وترك أثرٍ إيجابي في سلوكهم.
كما تهتم المرأة في القرية والمدينة بتوفير مؤونة وقائمة الشهر وتجهيزها قبل رمضان رغبة في تقليل الجهد أثناء أيام الصوم، وكذلك الموظفات منهن في المدن أو الحرفيات في الأعمال اليدوية اللاتي يقمن بإنهاء أغلب أعمالهم المناطة بهم، وذلك كي لا يزدحم برنامجهم الرمضاني، الاستعداد لتهيئة النفس للعبادة.
ويرتبط أفراد القرية والمدينة منذ القدم في شهر رمضان، من خلال عاداتهم الإسلامية الخاصة بالشهر المبارك، وتستقطب المساجد العامرة المنتشرة في أرجاء القرى أو الأحياء الأعداد القياسية من المصلين، التي تؤدي دورها كأماكن للعبادة والتقوى طيلة هذا الشهر الفضيل.
ويجسد صائم القرية والمدينة في المملكة كل عام، صورة من حيث العادات والتقاليد التي ما زال سكانها يتمسكون بها وينقلونها إلى أجيالهم الشابة، وما يصحب هذه العادات والتقاليد من نسيم وجمال القرية ونور المدينة، التي تحمل في جوفها مشاعر المشاركة والقرب؛ إذ بقي أبناء الوطن إلى وقتنا الحاضر ملازمين لعاداتهم الرمضانية بطابعها الروحاني الخاص دون غيره.