لا أبرئ نفسي من تجاوز الإشارة الصفراء ذات ليلة عند تقاطع شارع فلسطين مع شارع الأمير ماجد بجدة، أما احمرار الإشارة فلا. إن تجاوز الإشارة الحمراء حرام مثلها مثل شرب الخمر أم الكبائر. لكن عسكري المرور استوقفني وطلب مني رخصة السواقة والاستمارة، ثم أمرني أن أركن سيارتي بقرب الرصيف وأن أصعد جيب المرور الضيق المشبوك.
كان معي ابن عمي وذلك قبل انتشار الجوالات فقلت له: اركب سيارة تاكسي وأبلغ أهلي. ثم جادلت العسكري أني بريء من الإشارة الحمراء. فقال: على قطع ذراعي أنك قطعتها.
في داخل جيب المرور بدأت الهواجس تأكلني. ودخل الجيب قبلي شاب نحيل من القارة الهندية بنغلادش أو الباكستان أو الهند وربما سريلانكا. نعم كانت الإشارة صفراء غير إني استدرت للخلف. فالانطلاق مباشرة حتى عند اشارة صفراء محظور. فقد قال لي كويتي ذات يوم: إن السائقين عندهم منهم مجنونان بين كل ثلاثة، وأما عندكم فالنسبة مضاعفة، وضحك.
ماذا أفعل، وقد دخلت القفص؟ ليس أمامي سوى سورة “يس” التي حفظتها في يفاعتي بتوجيه من والدي- رحمه الله- ونوّر مضجعه. وفيما كنت أقرأ السورة وخشوعي بدرجة صفر، إذ بسائق من الذين عناهم الأخ الكويتي قد هجم على الإشارة الحمراء عيانًا بيانًا، لا يلوي على شيء. وكان العسكري خارج السيارة فقفز إليها وحركها، يريد أن يلحق بقاطع الإشارة الذي لم يحترم الاحمرار بلون الدم. وشعر السائق الطائش وهو يطالع مرآة سيارته أن جيب المرور قد هب كالعاصفة نحوه، فانعطف يمينًا في حي بني مالك، وجيب المرور، وأنا والمهند بداخله، يحاول أن يلحق به ولكن ما هي إلا بضع دقائق حتى دخل الجاني في أمعاء الحي، ففقده عسكري المرور.
شهدنا الموقف العصيب وحامت سحابة من الغضب على وجه العسكري ولا لوم عليه. مع أني لم أر وجهه. لكني على قناعة أن الجاني قد قطع الإشارة الحمراء، ثم لاذ بالفرار في جنح الظلام.
خفف عسكري المرور من سرعته بعد هرب الجاني، وهيمن الصمت، عدا همهمة سورة يس التي كنت على وشك الانتهاء منها. ولا أذكر الآن بعد مرور ربع قرن هل زدت قراءة الفاتحة أم اقتصرت على هذه السورة التي تسمى قلب القرآن، التي قال عنها سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم: إنها لما قرئت له.
وقد عاد الجيب إلى نفس المكان الذي تمركز فيه قبل مطاردة الشارد. وفيما كنت بلا حول ولا طول، إذا بالعسكري يلتفت إليّ ويمد لي الرخصة والاستمارة قائلاً: انزل، ما لنا حظ فيك.
نفسي! نفسي! فقد ترجلت ثم ركبت سيارتي دون أن أقول للمهند مع السلامة.