البلاد – جدة
في تاريخ الأوطان قيادات فذة ومحطات عظيمة في أحداثها ومنجزات أبطالها، خاصة إذا ارتبط ذلك بقيام دولة مستقرة، يستظل بها أبناؤها وينعموا بخيراتها وينهضوا بمستقبلها.. وهنا تكمن دوافع توقف الأجيال عندها بالاعتزاز، واستلهام أمجادها والوفاء والافتخار برمزها وبرجالاتها، والوعي الوطني في مواجهة التحديات.
وهنا تكمن أهمية قراءة التاريخ وصفحاته المرصعة بأمجاد مؤسسها الأول الإمام محمد بن سعود، وتضحيات أبنائه وأحفاده من بعده في سبيل بناء الدولة.
استذكار يوم التأسيس والاحتفاء به، هو قيمة وطنية عظيمة في تاريخ الوطن المجيد، لمزيد من الفخر والانتماء لدولة عريقة الجذور تأصل تاريخها لقرون، وبُنيت قواعدها على أساس راسخ من الإيمان والإقدام، والإصرار على إرساء الوحدة والأمن، بعد قرون من التشتت والفرقة والتناحر بين القبائل في الجزيرة العربية آنذاك، ومؤامرات الغزاة الطامعين.
لقد كانت بداية تأسيس الدولة السعودية على يد الإمام محمد بن سعود- رحمه الله- النواة التي بُني عليها هذا الصرح الوطني العظيم، وهنا تكمن القيمة الكبيرة لقراءة التاريخ وصفحاته المرصعة بأمجاد مؤسسها الأول الإمام محمد بن سعود، وتضحيات أبنائه وأحفاده من بعده في سبيل بناء هذه الدولة العصرية الحديثة.
لذلك لم يكن يوم التأسيس الموافق 22 فبراير من كل عام، يوماً اعتيادياً في تاريخ الدولة السعودية، وما شهدته على أكثر من ثلاثة قرون من أحداث وتحديات ومراحل تطور، فهو يمثل الجذور الراسخة في عمق التاريخ، التي بدأت من الدرعية عاصمة الدولة الأولى في منتصف عام 1139هـ / 1727م التي أسسها الإمام المؤسس محمد بن سعود- رحمه الله.
بطولات وأمجاد
لقد كان الإمام محمد بن سعود شخصية استثنائية وعبقرية، حين قرر إنهاء منظومة التشتت، معتمدًا هدف الوحدة والاستقرار والنماء، مبتدئًا بمدينته “الدرعية” فوحَّد شطريها، وجعلها تحت حكم واحد، بعد أن كان متفرقًا بين مركزين، واهتم بشؤونها الداخلية، وتقوية مجتمعها، وتوحيد أفراده، مع الحرص على تنظيم الموارد الاقتصادية للدرعية، كما حرص على الاهتمام بالمظهر الحضري للدولة وإدارة شؤونها، ما يوثق نظرته الثاقبة للاستقرار والازدهار في مجالات متنوعة، محققًا لها الاستقلال السياسي التام عن أي قوة خارجية، كما سجل التاريخ حرصه على الاستقرار والنماء في منطقته.
فالتاريخ يسجل للإمام محمد بن سعود، أنه بعد توليه إمارة الدرعية، قام بالعمل على تأسيس الوحدة فيها وتأمين الاستقرار داخلها، وفي محيطها من البلدات والقبائل، وحماية طرق الحج والتجارة. كما عمل على تنظيم الأوضاع الاقتصادية للدولة، والتوسع في البناء وتنظيم أسوار الدرعية، لتنطلق الدولة بعد ذلك في توحيد المناطق في نجد؛ لتشكل بداية المرحلة الأولى من توحيد الدولة السعودية الأولى، الذي اكتمل في عهد أبنائه وأحفاده؛ حيث تعكس مرحلة التأسيس شخصية الإمام محمد بن سعود المحورية في تاريخنا السعودي، التي مهدت لدولة ممتدة منذ قيامها قبل أكثر من ثلاثة قرون.
لقد اتسم الإمام المؤسس برؤية ثاقبة، واستفادته من التجربة التي خاضها في شبابه، حين عمـل إلى جانب والده في ترتيب أوضـاع الإمـارة، مما أعطاه معرفـة تامـة بـكل أوضاعهـا، كما شـارك في الدفـاع عـن الدرعيـة عندمـا غزاهـا زعيـم الأحساء، واستطاعت الصمـود ودحـر المعتـدين، وأدرك ببصيرته العميقة طبيعة وتحديات الأوضاع التي كانت تعيشها إمارتـه والإمارات من حولهـا بشكل خاص ووسـط الجزيرة العربية عـامة؛ لذا بدأ منـذ توليه الحكـم التخطيط للتغيـيـر في النمط السـائـد خـلال تلك الأيـام، واهتمامه بالتطوير نحو مفهوم الدولة المستقرة، فأسـس بذلك لاتجاه صحيح ومسـار جديد في تاريخ المنطقـة، تمثل في الوحـدة والعمل على تحقيق الأمن والاستقرار، والعمل على نشر التعليـم والوعي بأهمية الترابط والتلاحم بين أفراد المجتمع.
الوحدة والاستقرار
يوثق المؤرخون أن الإمام الإمام محمد بن سعود- رحمه الله- استطاع تحويل الدرعية من مفهوم (دولة المدينة) إلى دولـة واسعـة وذات نفوذ تحفظ الأمن والاستقرار، وقام بتوحيدها وبنائها على مرحلتين: الأولى خلال الفترة 1139 / 1158 هـ الموافق 1727 / 1745م وكان من أبرز أحداثها:
توحيـد شـطري الدرعيـة، وجعلهـا تحـت حـكـم واحـد، بعـد أن كان الحكم متفرقاً في مركزين، والاهتمام بالأمور الداخلية وتقوية مجتمع الدرعية وتوحيد أفراده، وتنظيم الأمور الاقتصادية للدولة. كما نشر الاستقرار في الدولة في مجالات متنوعة، والاستقلال السياسي وعـدم الـولاء لأي قوة، في حين أن بعـض بلدان نجـد كانت تديـن بالـولاء لبعـض الزعامات الإقليميـة.
ومن أبرز أحداث هذه الفترة إرسـال الإمام أخـيه الأمير مشـاري إلى الريـاض؛ لإعـادة دهـام بـن دواس إلى الإمـارة بعد طلـبه المعونـة مـن الدولـة السـعودية الأولى، إثر التمـرد عليـه، ويؤكد ذلك قـدرة الإمـام الكبيرة على احتـواء زعاماتهـا وجعلهـم يعلنـون الانضمام للدولـة والوحـدة، وبنـاء سـور الدرعيـة للتصدي للهجمات الخارجية القادمة إلى الدرعيـة مـن شرق الجزيرة العربيـة.
أما المرحلة الثانية من التأسيس خلال الفترة 1159 / 1179 هـ الموافق 1746 / 1765م، فكان أبرز بطولاتها وأمجادها، بدء حملات التوحيد، لمعظم منطقة نجد وانتشار أخبار الدولة في معظم أرجاء الجزيرة العربية، والقدرة على تأمين طرق الحج والتجارة، فأصبحت نجد من المناطق الآمنة، والنجـاح في التصـدي لعـدد مـن الحمـلات المعادية التـي أرادت القضـاء عـلى الدولـة في بدايتهـا.
وتوالت الإنجازات في عهد الإمام محمد بن سعود؛ ومنها: نشر الاستقرار والاستقلال السياسي وعدم الخضوع لأي نفوذ في المنطقة أو خارجها.