كان يا ما كان. كان هناك شاب أراد أن يستخرج بطاقة أحوال كما كانت تسمى في ذلك الوقت. طالبته الأحوال المدنية بخطاب من المدرسة لإثبات مهنته الحالية فأخبرهم أنه لا يدرس الآن وغير منخرط في أي عمل أو مهنة. اقترح عليه شخص ما أن يكتب تلك العبارة الشهيرة “متسبّب” التي تمتلئ بها مثل هذه الوثائق في ذلك الوقت لأن هذه العبارة، كما يقول الناصح الأمين، مفيدة في قطاع الأعمال وقد تفيده في استخراج سجل تجاري أو أي شيء آخر قد يستفيد منه تجارياً. أصبحت هذه العبارة تزيّن هويته الوطنية وجواز سفره الذي كان في ذلك الوقت يحوي تفاصيل أخرى أكثر خصوصية. كانت الكلمة الإنجليزية التي اختارها مترجم هذه الوثيقة والمقابلة لكلمة “متسبّب” هي dealer .
نسي صاحب الهويّة هذه التفاصيل ولم يتذكّرها إلا بعد أن أوقفته موظفة الجمارك في أمريكا تتفحّص جواز سفره وتنظر إليه شذرا بعينين لامعتين وتسأله:
What kind of dealer ? are you
أُسقط في يد صاحبنا ولم يجد إجابة شافية لمثل هذا السؤال المفاجئ الذي يأتي من شخص ذي ثقافة مختلفة ولغة مختلفة وسياق مختلف. لم يسعفه تخصصه بالإنجليزية في إنقاذه من هذه الورطة التي خلقها مترجم الوثائق الشخصية الذي لم ينتبه إلى هذه التفاصيل المرعبة التي يعيشها الآن في مطار نيويورك في بداية التسعينات الميلادية. استرجع شريط بعض الأفلام الأمريكية التي شاهدها وتناولت هذه المفردة اللعينة وأدرك الورطة التي وقع فيها. كان عليه أن يسرد قصته منذ تلك النصيحة المباركة وحتى وقوفه هنا بعد أن حصل على قبول في إحدى الجامعات الأمريكية لمواصلة دراسته. ربما لن يتمكّن من الدراسة الآن. لتذهب الدراسة إلى الجحيم. المهم هو الخروج من هذه الورطة. لا يبدو من خلال نظرات هذه الموظفة المتعجرفة أنها مستعدة لسماع محاضرة في اختلاف الثقافات واللغويات التطبيقية ومقارباتها الأبستمولوجية. نطق متأخّراً: car dealer.
لم تسعفه هذه الإجابة في تغيير الموقف وحاول مجدداً أن يبدأ محاضرته في الأنثروبولوجيا لكن يداً ثقيلة على كتفه أوقفته عن الحديث. التفت وإذا بموظف ضخم الجثة عريض المنكبين يطلب منه الاتجاه نحو غرفة نائية في المطار. كان المشهد مألوفا لمن يمر أمام باب هذه الغرفة. شخص ينزع ملابسه ويقف مستقبلاً الجدار مرفوع اليدين وموظف يسيء الظن ويتحسّس كل عضو فيه. تذكّر أحد أصدقائه وهو يحذّره من طبيعة تفتيش هؤلاء القوم الذين لا يردعهم أي وازع أخلاقي. أراد أن يلتفت نحو المفتش غير أن صرخة عنصرية نهته عن ذلك. كان منظره مثيراً للشفقة وهو يضع ملابسه من جديد فوق جسده العاري. أحضروا حقيبة السفر وفتحوها أمامه. “ما هذا؟” سأله أحدهم وهو يستخرج عبوة بلاستيكية صغيرة مغلّفة بدت وكأنها نوع جديد من المخدرات. “هذا تمر” قال لهم وهو يحاول أن يبدأ محاضرة جديدة في فسيولوجيا النبات. خرج الرجل من المطار يجرّ حقيبته وكرامته دون أن يكمل محاضرته. شيء واحد اتضح له. لتذهب الدراسة إلى الجحيم.
khaledalawadh @