امتداداً لما تحدّثنا عنه في الحلقات الماضية حول الجو الثقافي الفريد في المملكة الذي عبّر عنه عبدالوهاب المسيري إبّان تواجده في الرياض ، فقد تمكّن هذا الفيلسوف من تكوين صداقات عدة لعل أهمها تلك العلاقة القوية التي كانت تربطه بأحد أعلام الوسط الثقافي في المملكة وهو الناقد الأدبي المعروف الدكتور سعد البازعي الذي عمل مع المسيري في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة الملك سعود. كلاهما أثنى على صاحبه ووثّقا هذه الصداقة في أكثر من كتاب من كتبهما حيث يقول المسيري: “نشأت بيننا صداقة فكرية تركت فيّ أعمق الأثر”، بينما يشيد البازعي بالمسيري في مقدمة كتابه “المكون اليهودي في الحضارة الغربية” قائلاً إنه لولا فكره المتميّز ، وصداقته الرائعة، وحثّه المتواصل ، لما أنجز أشياء كثيرة ، ومنها هذا الكتاب، ويقصد البازعي هنا :أطروحته حول المكوِّن اليهودي في الحضارة الغربية.
رغم علاقة الصداقة القوية التي تربط بينهما ، إلا أن كتاب البازعي الآنف الذكر ، يكشف عن اختلاف في الرؤى بينه وبين المسيري في النظر إلى اليهود، وتأثيرهم في الحضارة الغربية إذ يرى الأول أن الإثنية اليهودية لها علاقة حاسمة في إسهاماتهم الفكرية والإبداعية بينما المسيري يعتقد بخلاف ذلك: أي أن اليهود جزء من الحضارة الغربية ولا علاقة ليهوديتهم بتشّكيل فكرهم.
يعتقد البازعي أن “جينات” المكوِّن اليهودي كانت حاسمة في نبوغ العلماء والمبدعين اليهود ، وقد كان هذا هو السبب الذي جعله يؤلّف هذا الكتاب ، ليقدّم أطروحته المخالفة لأطروحة المسيري الشمولية التي وقعت، في رأي البازعي، في الاختزال بإسقاط كل التفاصيل التي تميّز كاتبا أو مفكراً عن آخر، ولا تفسح للبعد الإثني أي دور في فهم هذا التميُّز والإبداع لليهود.
في المقابل، يعتقد المسيري أن عبقرية إنشتاين، ومثله الكثير من العلماء والمبدعين اليهود، ليست نتاج يهوديته ، وإنما هي نتاج التراكم المعرفي والتقدم العلمي في الغرب. لماذا لم يظهر أمثال هؤلاء في العراق أو اليمن أو المغرب، على سبيل المثال؟
لا يعتقد المسيري أن البعد اليهودي في شخصية هؤلاء العلماء أو الفنانين أو ثقافتهم ،عنصر حاسم أو مؤثر أو أساسي أو فاعل في إبداعهم أو تميّزهم. الحديث عن اليهود بمعزل عن المجتمعات التي يعيشون فيها لا يتنافى مع الروح العلمية ، وإنما يتنافى مع الروح الإنسانية، لأنه يسقط عن اليهودي صفة الإنسانية، بإنكار تفاعله مع البيئة التي حوله. يرى المسيري أن الإثنية اليهودية ليست مستمدة من أي تراث يهودي عالمي ، وإنما مستمدة من التشّكيل الحضاري الذي يوجد فيه أعضاء الجماعة اليهودية. لذا فالحديث عن شعب يهودي واحد ، أو إثنية يهودية عالمية ، أو هوية يهودية واحدة عالمية ، هو اختزال عنصري لأعضاء الجماعة اليهودية ، يسقط عنهم إنسانيتهم، فيهود أمريكا يختلفون عن يهود الهند ، وهؤلاء يختلفون عن يهود العالم العربي، بل إن يهود العراق يختلفون عن يهود اليمن، وفي اليمن يختلف يهود صنعاء عن يهود صعدة بمقدار اختلاف أهل صنعاء عن أهل صعدة.
khaledalawadh @