في عام 1420هـ تقريباً ،صادفت رجلين أديا فريضة الحج منفردين كلٌ بطريقته ولا يعرف أحدهما الآخر حسب علمي. الأول تونسي اسمه “جمعة”، وكان يعمل مصحِّحا في “عكاظ ” ، وكان من عادته أنه إذا سمع التلبية في السادس من ذي الحجة ،قدم طلب إجازة. كان يلبس إحرامه وينوي الحج ويلبي: “لبيك اللهم بحجة” ثم يركب مع أي سيارة تنقله إلى مكة المكرمة ثم إلى عرفات والمشاعر.
كان جمعة يتحرك منفرداً دون ترتيب للمسكن أو المأكل أو المبيت. وقد قابلته في نهار يوم من أيام التشريق وهو جالس على قارعة الطريق في الشمس ومعه مظلة وشنطة صغيرة، وبعد الترحيب سألته أين مقرك فلم يجب وإنما رفع يده إلى السماء وأشار بسبابته!
قلت لنفسي لا أطيق ما تطيقه يا جمعة مع أني كنت في قوة الشباب. هذا من الذين على ربهم يتوكلون. وقد شعرت وقتئذ أنه ما كانت رغبته في الوظيفة في المملكة ، ترقى إلى مستوى تحقيق مراده وهو الأنس ببيت الله الحرام.
لا أذكر أني رأيته الا خفيف شعر الرأس. ربما لأنه كان يعتمر كلما سنحت له إجازة من العمل. ثم يحلق شعر رأسه مرة بعد مرة. فلا تراه إلا شبه أصلع. لكأنما جاء إلى المملكة بعقد عمل مع الله لا مع عكاظ. وقد رأيته أكثر من مرة واقفا أمام لوحة كبيرة للمسجد الحرام في صالة المصعد إلى تحرير عكاظ وقد تطاول وزمّ شفتيه ليطبع قبلة على صورة الكعبة وهي ترتدي الكسوة بلونها الأسود الفخيم في وسط الإطار الكبير للوحة البيت الحرام.
أمّا الثاني وهو تونسي أيضا ، فقصته أعجب: ففي يوم الرابع من ذي الحجة، انطلق الأخ “التيجاني” وهذا اسمه، بسيارته من جدة، على طريق مكة القديم وسجل اسم أي مسجد أو مصلى على الطريق ،لأنه اعتزم أن يحج على قدميه من جدة إلى مكة والمشاعر، وبالتالي يريد معرفة المحطات التي يتوقف عندها لكي يتوضأ ويرتاح فيها ، كلما قطع عشرة أو عشرين كيلومتراً. ولكي يعرف أيضا موضع نومه في أحد المساجد ، وذلك بالترتيب مع إمام المسجد أو المؤذن.
كانت حجة الأخ التيجاني بروفة لما كان يفعله أجدادنا قبل مائة سنة.
رحل التيجاني عنا مسروراً بإنجازه، لكني أتخيل أن جمعة رحل عنا باكياً حزيناً على فراق الكعبة المشرّفة. كلا الرجلين كان يدفعهما الحب للبقاع الطاهرة ، ومع هذه المحبة الصادقة ،عزيمة راسخة، لكن مع
العزيمة، صحة في الجسم ، وإلا صدق المثل الشعبي: لو زرعنا يا ليت في وادي عسى، فالثمرة صفر.