في الوقت الذي انتشرت فيه موجة الحداثة في الوسط الثقافي المحلي في الثمانينات الميلادية، كانت موجة أخرى قد بدأت بالفعل في العالم الغربي ، وهي فلسفة ما بعد الحداثة، وهذه الأخيرة هي أحد الموضوعات الرئيسة التي يهتم بها عبد الوهاب المسيري في قراءته لليهود والصهيونية والمادية الغربية.
عندما جاء المسيري للعمل كأستاذ للأدب الإنجليزي في جامعة الملك سعود في منتصف الثمانينات الميلادية ، كانت الصحافة المحلية والأندية الأدبية تعجّ بالكثير من المناوشات الفكرية والمعارك الصحفية بين أنصار الحداثة من جهة وأعدائها من الأدباء المحافظين من جهة أخرى.
وكما قلنا في هذا المكان في مقال سابق، كان المسيري يتمتع بروح رياضية عالية لم تورّطه في نزاعات ومعارك هامشية مع أحد من الكتّاب أو المثقفين، على الأقل في المقالات التي يكتبها أو الندوات الثقافية التي يشترك فيها، سواء كان ذلك مع التيار الحداثي أو التقليدي المحافظ، رغم أن المتابع المتأمّل لأفكار المسيري ، يعرف الموقف الفكري الذي يتخذه والذي بدا جلياً في كتبه لاحقاً.
كانت فلسفة ما بعد الحداثة ،الموضوع الذي بدأ فيه محاضراته الثقافية في المملكة ، وتحديداً في النادي الأدبي الثقافي بالرياض باقتراح من عزّت خطاب، رئيس قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب. لكن الوسط الثقافي السعودي عرف المسيري كأستاذ ومفكّر متخصِّص في الصهيونية واليهودية إذ يبدو أن هذا هو ما كان يشتغل عليه وقت تواجده بالمملكة، رغم أنه متخصِّص بالشعر الإنجليزي والنظرية النقدية.
وعندما ننظر الآن إلى الوراء بعين متأمّلة إلى الوسط الثقافي المحلي آنذاك حول انتشار الحداثة في الأعمال الأدبية وخاصة في الشعر والقصة القصيرة ، نجد أن فلسفة ما بعد الحداثة لم تنعكس بعد في الوسط الثقافي، إذ كان الصراع الفكري قد بلغ ذروته في النصف الثاني من الثمانينات الميلادية بين التيارين الحداثي والمحافظ، وخير مثال على ذلك المقالات الحادّة والمليئة بالنقد القوي، التي كانت تظهر في الملاحق الثقافية في الجرائد المحلية بين نقاد سعوديين ، كتلك المساجلات والردود بين عبدالله الغذامي وحسن الهويمل على سبيل المثال لا الحصر.
أمّا موقف المسيري من الحداثة وما بعد الحداثة، فهو واضح وجلي، وخاصة في نتاجه الفكري اللاحق، إذ يعتقد أن ما بعد الحداثة ، قد انبثقت من الحداثة نفسها، وجعلت من قوانين المادة الطبيعية، معيارا لكل شيء بما في ذلك الظاهرة الإنسانية، فوصلت بذلك إلى العدمية الكاملة وغياب المعنى وإنكار المركز والقيمة، وفي النهاية إنكار الحقيقة المطلقة.
ومن الطريف في هذا الأمر، بحسب ما قاله المسيري، أن أحد الشعراء نشر قصيدة في إحدى الجرائد المحلية آنذاك، لكن محرر الصفحة الثقافية نسي حذف عبارة “انتهى” التي كانت موجودة في نهاية القصيدة، والتي يفترض حذفها بعد تسّكين النص في مكانه في الجريدة، فقام أحد النقاد الحداثيين لاحقاً بكتابة دراسة مطولة عن القصيدة مركّزاً على كلمة “انتهى” باعتبارها المفتاح الأساسي لفهم القصيدة.
khaledalawadh @