بين زحامِ المهام، وركامِ الأعمال، وكثرةِ المسؤوليات، قد يصيبُ النفسَ شيءٌ من الملل والسآمة، والميلِ إلى كسر الرتابة، فتهفو إلى الاستجمام والترويح، واللهو والترفيه.
وإن من حكمة الشريعة الغراء أنها أثبتت للنفس هذا الحق، وأباحت للإنسان نصيبَه من ذلك.
قاعدةٌ شهيرةٌ وضعها النبي صلى الله عليه وسلم لحنظلةَ حين شكا إليه تغيرَ حالِ قلبه بين الإيمان حيناً، وبين اللهو حيناً آخر، فقال له: (يا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً).
“أي: ساعةً في الحُضورِ والذِّكْرِ، وساعةً في مُخالَطةِ الأَولادِ والأَزْواجِ ومُلاعبَتِهم”.
وحين سمع النبي صلى الله عليه وسلم عن أحد عبادِ الصحابة وهو عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه كان يقوم ولا ينام، ويصوم ولا يفطر، أسرع إليه ليعالجَ خللَه ويُبصّرَه بحقيقةِ نفسه فقال له: (فإنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذلكَ هَجَمَتِ العَيْنُ، وَنَفِهَتِ النَّفْسُ) أي: أَعيت وكَلّت، وتَعِبَت وأُجهدت. ثم بين له المنهج القويم وقال له: (فإنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِزَوْرِكَ -أي لضيفك- عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا)
ومع اعتدالِ الأجواء، وهبوبِ نسائمِ الشتاء، تهفو كثيرٌ من النفوس إلى الخروجِ في البرّية، والعيشِ مع أجواء الطبيعة، بعيداً عن صخبِ المدينة، وزحامِ أشغالها.
هنا نستعرضُ بعضَ الآدابِ والأحكامِ التي تهمُّ المسلمَ في مثل هذه النُزه، لنحققَ الإستثمارَ الأمثل لساعةِ الترويح وساعةِ العبادة.
حين تصلُ إلى مكان النزهة فلا تنسَ دعاءَ نزول المنزل الذي أوصانا به النبي صلى الله عليه وسلم، وتعلمَه لأهلك وولدك، ليكون سبباً في الحمايةِ من الأذى والشرور بإذن الله، قال صلى الله عليه وسلم: (إِذَا نَزَلَ أَحَدُكُمْ مَنْزِلًا، فَلْيَقُلْ: أَعُوذُ بكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِن شَرِّ ما خَلَقَ، فإنَّه لا يَضُرُّهُ شيءٌ حتَّى يَرْتَحِلَ منه).
فإذا نزلتَ المنزلَ فألقِ عنك ثوبَ الرسمية، وسمةَ الوقار، واملأ وقت نزهتِك بالملاعبةِ والمداعبةِ لوالديك وأهلِك وأولادِك. قال الإمام الشافعي: “الوقار في النُّزْهَة سُخْفٌ”. فاستثمر كل لحظة لتقويةِ علاقة الوُد، وتمتينِ حبالِ الحبِّ مع أقربِ الناسِ إليك.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كلُّ ما يَلهو بِهِ المرءُ المسلِمُ باطلٌ ، إلَّا رميَهُ بقوسِهِ ، وتأديبَهُ فرسَهُ ، وملاعبتَهُ أهلَه) والمعنى أن كلَّ لهوٍ لا ثوابَ عليه، إلا هذه الأمورَ وما يقاسُ عليها فإنها من جنس الأعمال الصالحةِ المستحبّةِ التي ينال المسلمُ فيها الثوابَ الكامل. فأنت حين تلاعب أهلَك فإنك تمارس عبادةً من العبادات تنال عليها من الأجرِ ما تناله في سائر الطاعات.
وحين يدخل عليك وقتُ الصلاة عليك في النزهة فما أجمل أن تؤديَ عبودية الآذان، أو تأمرَ أولادَك أن يؤدوها فيشهدَ لهم كلُّ من يسمَعُهُم ، قال صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ المُؤَذِّنِ، جِنٌّ وَلاَ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ، إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ).
ومن الأحكام التي قد تبرزُ في مثل هذه الرحلات بعضُ أحكامِ الوضوءِ والغُسل. ففي شدة البرد يشق الوضوءُ أو الغسلُ على الإنسان، فإن كانت المشقةُ محتملةً ولا تضر، فليتذكر المسلمُ حديثَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم حين قال: (أَلا أدُلُّكُمْ علَى ما يَمْحُو اللَّهُ به الخَطايا، ويَرْفَعُ به الدَّرَجاتِ؟ قالُوا بَلَى يا رَسولَ اللهِ، قالَ: إسْباغُ الوُضُوءِ علَى المَكارِهِ…) فحين تعطي كلَّ عضوٍ حقَّه في الوضوء مع مشقةِ تحملِ البردِ عليك، فإن اللهَ يجزيك بذلك محوَ الخطايا ورفعةَ الدرجات.
وأما إن كانت المشقةُ شديدةً غيرَ محتملة، وفيها ضررٌ على الإنسان بزيادةِ مرض أو تأخرِ شفاء، ولم يمكنْه تسخينُ الماءِ فقد شرع اللهُ التيممَ عوضا عن الوضوء أو الاغتسال من الجنابة، فالحمد لله على نعمته والشكر له على تيسيره.
( يتبع .. )