عبدالله صقر- مركز المعلومات
شهدت القرون الوسطى تقدماً فريداً في كل العلوم والمجالات، خاصة الفلك والطب والفلسفة، وغدت بلاد المسلمين مقصد العلماء وطلاب العلم، حيث العدل والحرية اللذان مهدا الطريق أمام العلماء للبحث والمعرفة، ووضع أسس المنهج العلمي الذي يعتمد على التجربة والمشاهدة والاستنتاج وإعمال العقل، ليظهر جيل جديد من العلماء الذين وضعوا اللبنات الأولى للتطور العملي الحديث. ومن هؤلاء العلماء الذين بلغت شهرتهم الآفاق” أحمد بن الجزار القيرواني” المعروف في الغرب باسم ((ALGIZAR )).
الفصل بين العيادة والصيدلية
اعتمد ابن الجزار على المنهج العلمي المتميز في الفصل بين الطب والصيدلة أثنـاء دراسـته لهمـا، وأثناء علاجه للمرضى، الأمر الذي جعله يحـتل مرتبـة علميـة كبـيرة فـي المغـرب الإسـلامي كتلك المكانة التي احتلَّها الرازي في المشـرق الإسـلامي؛ بـل إن ابـن الجـزار قد فاق الرازي في تفريقه بين مكان العيادة للمرضى ومكـان صرف الأدوية؛ فكان له عيادته الخاصة التي افتتحها في منزله ليفحص فيها المرضى، أمـَّا صيدليتـه فقـد أقامهـا على باب داره وأقعد فيها غلامًا له -كما أخبر ابن أبي أصيبعة. وهذا الفصلُ من ابن الجزار بين الطب والصيدلة لم يكن ليقتصر على النواحي المهنية المتطلبة لذلك- فحسب، بل يمكن أن نُضيف حسن أخلاقه، وترفُّعه عن الطلب وخاصة من الفقراء والنساء؛ لذلك لم يكن ابن الجزار يُعطي النساءَ الأدويةَ بصورةٍ مباشرة حتى لا يجبرهن على دفع قيمتها، أو لعله لم يكن يفعل ذلك مخافة النظر إليهن، والميل لهن، ومن ثَمَّ كان يُقعد غلامًا له ليعطي المرضى ما يحتاجونه من أدوية وغيرها؛ بِنَاءً على وصف ابن الجزار لها.
التصنيف النباتي في علم الأدوية
كان ابن الجزار واسع المعرفة بالمصادر الطبية والصيدلانية. ولم يمنعه وجوده في مغرب العالم العربي من الحصول على ثمرات جهود علماء المشرق، المترجمة منها والمصنفة.
عمل ابن الجزار على تعديل القوانين الطبية القديمة وتطويرها، ولقد ذاع صيته وتجاوزت شهرته حدود البلاد التونسية، وكان طلاب الأندلس يتوافدون إلى مدينة القيروان لتحصيل الطب منه.
كان منهج ابن الجزار يأخذ بالتصنيف النباتي منهجاً في تأليف كتب النباتات الطبية والصيدلانية؛ حيث يعتمد على تسعة أسس هي: تصنيف النباتات بحسب اللون، لون النوار، هيئة النبات، هيئة الأوراق، أو البذور، أو الأغصان، وحجم النبات، وبيئة الإنبات، وزمن الظهور، والمنطقة الجغرافية، وجنس النبات.
وكان لابن الجزار منهج في دراسة الأدوية، وخصوصًا المستخرجة من النباتات، فيذكر اسم النبات باللغات العربية واليونانية والفارسية والبربرية والسريانية واللاتينية،
ويوضح قوة الدواء، ويصف الدواء وصفاً تفصيلياً، ثم يشرح الخصائص العلاجية والحالات التي يؤخذ فيها هذا الدواء. كما يشرح كيفية الكشف عن غش الأدوية، وكيفية استبدالها ببدائل، شرح ذلك في كتاب «إبدال الأدوية».
كما أنّه كان يؤكد على قاعدة ما زالت سارية المفعول: ” يتداوى كل عليل بأدوية أرضه؛ لأن الطبيعة تفزع إلى أهلها”.
كتاب الاعتماد
قام ابن الجزار بتصنيف عدد كبير من المؤلفات؛ منها كتاب «الاعتماد في الأدوية المفردة» ألفه في مطلع شبابه، وقدمه للخليفة القائم بن عبيد الله المهدي، وله كتاب في الأدوية المركبة ويعرف بالبغية؛ تكلم فيه عن العقاقير النباتية والحيوانية والمعدنية، وصنفه في أربع مقالات، بحسب درجات الأدوية الأربعة، وبلغ عددها (278) دواءً، منها (45) من أصل معدني، و(219) من أصل نباتي، وما بقي من أصول مختلفة.
انتقد ابن الجزار في مقدمة هذا الكتاب ديسقوريدس لأنه لم يذكر طبيعة كل واحد من العقاقير التي تكلم عليها، وقوته وكميته. ثم انتقد جالينوس لأنه لم يذكر منافع تلك العقاقير وخواصها ومضارها. كما قام بحذف كثير من العقاقير التي ورد ذكرها في كتاب ديسقوريدس، لأنها كانت غير معروفة أو مستعملة في المغرب العربي.
شاع كتاب «الاعتماد» في أوروبا بعد أن ترجم إلى اللاتينية من قبل قسطنطين السرقسطي، تحت اسم Liberfiduciae، ولكن لم تعرف أهمية هذا الكتاب وصاحبه إلا بعد أن قام قسطنطين الإفريقي، في مدينة سالرنو بوضع موجز له تحت اسم مستعار وهو Liber gradibus، وانتحله لنفسه.
الاقتصاد الصحي
يعتبر ابن الجزار رائد طب الفقراء حيث يقول في مقدمة كتابه طبّ الفقراء والمساكين: ” لمّا رأيت كثيرًا من الفقراء وأهل المسكنة عجزوا عن علاج أمراضهم لقلّة طاقتهم عن وجود الأشياء التي هي موادّ العلاج، رأيت عند ذلك أن أجمع في هذا الكتاب العلل وأسبابها ودلائلها وطرق مداواتها بالأدوية، التي يسهل وجودها بأخفّ مؤونة وأيسر كلفة، فيسهل عند ذلك علاج العَوَام على الأطباء، من أهل الفقر والمسكنة منهم بهذه الأدوية التي جمعتها”
ولم يكتف ابن الجزّار بوصف هذه الأدوية وترتيبها على ثمانين بابًا، كما قال، بل أضاف: إنّه جرّبها بنفسه فحمدها، وإنّه لم يعتمد على مجرّد «المشاهدة والنظر» بل على أقوال الأطباء القدامى أمثال جالينوس وديسقوريدوس وغيرهما من أفاضل الأطباء، ويبدو أنّ ابن الجزّار كان سبّاقًا في مجال ما يُسَمّى اليوم: الاقتصاد الصحّي، حريصًا على التسهيل والتيسير قبل كل شيء.
وقد أثبت الطبّ الحديث نجاعة الأدوية التي وصفت في «كتاب طبّ الفقراء والمساكين» سواء كانت نباتية أو حيوانية أو عقاقير معدنية مفردة أو مركّبة حسب نسب وموازين مخصوصة، كما أثبت ملاءمتها للمرضى طبقًا لطبيعتهم وقوّتهم وسنّهم.