عبدالله صقر- مركز المعلومات
يعتبر البيروني أحد ألمع علماء القرن الرابع الهجري وأكثرهم جاذبية، حيث احتل مكانة عالية في العلوم الرياضية والفيزيائية والفلكية، كما كان عالمًا موسوعيًا وفيلسوفًا، واحتل كذلك مكانة في الأدب العربي، وفي ميدان الجغرافيا والرحلات.
عاش أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني بين عامي 973/1048 م، وهي فترة شهدت طفرة علمية وأدبية.
كان لمؤلفات البيروني فضل كبير في صناعة عصر النهضة، والثورة الصناعية في العالم.
منهجه العلمي
كان البيروني من أوائل الذين آمنوا بضرورة المشاهدة والاستقراء والرصد والتتبع والتحليل، وكذلك إجراء التجارب، وقد ظهر هذا في كثير من مؤلفاته، ولم يكن يترك صغيرة ولا كبيرة إلا ووقف أمامها متأملًا ومحللًا.
امتاز البيروني بعقليته العلمية المدعومة بسمات العلم وقيمه النبيلة، والمكرسة لأهدافه بصورة عميقة تفوق مُعظم علماء التاريخ العرب قبله، فاعتبر المنطق أساس فكره والركيزة الرئيسة الداعمة له، وهو سبب تسميته بالأستاذ، فضلًا عن تكريس نفسه لأسلوب البحث المُنضبط والتطبيق السليم للنتائج والمعطيات في المباحث والعلوم العقلية، والسير في طريق التقدم والتطور المعرفي في مختلف مجالات العلوم، التي اشتهرت وبرزت في الحضارة العربية حينها؛ كالرياضيات، ورغم أنه لم يكن مُهندسًا، كما وصفه الشهرروري ولكنه برع في علم الهيئة، أي الفلك الذي كان يتفرع من الرياضيات حينها، إضافةً لارتباطه بالتاريخ والحضارات، ويتقاطع بشكل سطحي مع المباحث الأخرى التجريبية التي عُني بها البيروني؛ كالجغرافيا، والجيولوجيا، والطب والصيدلة، ومن هنا امتاز بكونه موسوعي الطابع، مُتعدد المعرفة في تلك المجالات، ولا نغفل عن اهتمام أبي الريحان بالمباحث الإنسانية بطريقة علمية خالصة؛ إذ عمل على إثرائها وإنتاجها بغزارة بعقليته العلمية بهيكلها وصلبها وأهدافها ومبناها،
وتجدر الإشارة إلى أن الأبعاد الدينية والفلسفية والأدبية رغم حضورها لديه إلا أنها كانت هوامش تدعم التشكيل العلمي، وروافد تصقله وتغذيه، نظرًا لارتباطها بالعصر الثقافي الذي يتطلب وجودها لدى العالم، خاصةً وأن الفلسفة لها عمق في العقلية العلمية ومرتبطة بجميع العصور.
الجغرافيا
حدد البيروني بدقة خطوط الطول والعرض، وناقش مسألة ما إذا كانت الأرض تدور حول محورها أم لا، وسبق في ذلك جاليليو وكوبرنيكوس. وأسهم البيروني في علم المناخ بشكل كبير، فقد قسم المناطق في العالم إلى مناطق حرارية محددة، كما أثبت أيضًا أن سرعة الضوء تفوق سرعة الصوت.
في الجغرافيا له كثير من الدراسات، التي ساهم فيها بتوضيح كثير من المجالات المرتبطة بعلمِ الجغرافيا، كتحديد خطوط العرض والطول للكرة الأرضية، والاهتمام بقياس نصف قطر الأرض، ووضع معادلةٍ لحسابِ نتيجة محيط الأرض، وغيرها، فضلًا عن المعلومات التي تؤكد أنه أول من قال بجاذبية الأرض.
وضع البيروني طريقة لقياس نصف قطر الأرض من خلال ملاحظة ارتفاع جبل، وقام بتطبيقها في ناندانا في بيند دادان خان، الموجودة في باكستان حاليًا.
لقد كان مهتمًا إلى حد كبير بعلوم الأرض؛ إذ تضمنت أعماله الكثير من الأبحاث عن كوكبنا، وكانت نتيجة اكتشافه لطريقة قياس قطر الأرض هي ثمرة أبحاثه الشاقة والمطولة في هذا المجال.
افترض البيروني في أحد كتبه أيضًا وجود قارة أو أكثر ضمن المساحة المائية الشاسعة، التي تفصل بين قارتي أوروبا وآسيا، وتم اكتشاف صحة هذا التنبؤ فيما بعد باكتشاف القارتين الأميركيتين، وقد استنتج البيروني وجودها على أساس حساباته الدقيقة لقطر الأرض، واعتماداً على تقدير مساحة قارات العالم القديم الثلاثة (آسيا وأفريقيا وأوروبا)، واستنتج أنها لا تمثل سوى خمسي محيط الأرض.
كما استفاد من اكتشاف مبدأ الجاذبية النوعية، الذي استنتج من خلاله أن العملية الجيولوجية التي أدت إلى ظهور الصفيحة القارية الآسيوية الأوروبية يجب أن تكون قد أظهرت قارات أخرى في المحيط الشاسع بين آسيا وأوروبا.
كما ذكر البيروني أن هذه القارة الواسعة هي مأهولة بالسكان غالباً، وهذا ما استنتجه من خلال معرفته بأن البشر يسكنون الحزام المكون من الأطراف الشمالية والجنوبية للقارات المعروفة ممتدين من روسيا إلى جنوب الهند وجنوب أفريقيا، ومفترضاً أن هذه القارة المجهولة يجب أن تمتد على هذا الحزام.
قسم البيروني المعمور إلى سبعة أقاليم، واتبع طريقة الخوارزمي في هذا التقسيم وحذا حذوه، فقسمها على أساس مناطق عرضية متوازية تمتد شمال خط الاستواء من المشرق إلى المغرب.
وقد استند في هذا التقسيم إلى ساعات النهار والأطوال في كل إقليم يبدأها من خط الاستواء إلى الدائرة القطبية؛ بمعنى إظهار الاختلافات ما بين النهار والليل بخطوط متوازية؛ تبدأ من أقصى العمارة في الشرق إلى منتهاها في الغرب.
رسم الخرائط
وضع البيروني قاعدة حسابية لتسطيح الكرة، أي نقل الخطوط والخرائط من الكرة إلى سطح مسطح وبالعكس، وبهذا سهل رسم الخرائط الجغرافية، إضافة إلى المسائل الهندسية، التي كان سباقًا إليها.
قام البيروني برسم الخرائط الفلكية بطريقة تشبه ما نشره (باترنو) فيما بعد. وله فيها مبتكرات كثيرة في كيفية نقل صورة الأرض الكروية إلى الورق المسطح، وكذا في كيفية رسم الخرائط الفلكية للسموات؛ ما جعل فضل البيروني على فن رسم الخرائط غير منكور.
وقد خص أبو الريحان بهذا الفن عدداً من مؤلفاته؛ أهمها كتاب (تسطيح الصور وتبطيح الكور)، وكتاب (تحديد المعمورة وتصحيحها في الصورة)، وكتاب (تكميل صناعة التسطيح) عدا فصول متفرقة في (القانون المسعودي).