عبدالله صقر- مركز المعلومات
خلال الفترة ما بين حوالي 133هـ/750م -236 هـ/850م اكتشفت الدولة العباسية في العراق علوم الفلك الهندية والإغريقية، وواجهت مشكلة الاختيار بينهما، وبرزت إحدى محاولات حل هذه المشكلة أثناء خلافة المأمون (198هـ/813م – 218هـ/833م) الذي ساند أول برنامج للأرصاد الفلكية، واستمرت هذه المحاولات حتى القرن الخامس هجريًا /الحادي عشر ميلاديًا عندما قام البيروني بترتيب المعارف التابعة لأسلافه ترتيبًا منهجيًا نقديًا، وأضاف إليها نتائج أبحاثه، وبذلك انتهت فترة الاستيعاب.
عاش البيروني في غزنة- كابول الآن- مشتغلًا بالفلك وغيره من العلوم، ورافق السلطان محمود الغزنوي في فتوحاته الظافرة في بلاد الهند، وقد هيأ له ذلك أن يحيط بعلوم الهند، حيث عكف على دراسة لغتها، واختلط مع علمائها، ووقف على ما عندهم من العلم والمعرفة.
الأرض والشمس
كانت دراسات البيروني المتعلقة بعلوم الفلك، متركزة بمعظمها على النصوص الرياضية والعلمية، أما التنبؤ الفلكي فلم يشغل سوى الفصل الأخير، فلم يكن البيروني من متبني علم التنجيم، حتى إنه وصل إلى وصف الأبراج الفلكية بأنها مجرد شعوذة.
برهن البيروني على حقائق علمية هامة؛ منها مساحة الأرض ونسبتها للقمر، وعن أن الشمس هي مركز الكون الأرضي، وعن بعد الشمس عن القمر، وعن مساحة الأرض ونسبتها للقمر، وبعدها عن جرم الشمس وأبعاد المجموعة الشمسية عن الأرض، وبعد الكوكب عن الآخر في المجموعة، وهو أول من قال: إن الشمس هي مركز الكون الأرضي مخالفًا كل ما كان سائدًا في وقته من آراء تتفق كلها على أن الأرض هي مركز الكون.
لم يكن يخالج البيروني أدنى شك في كروية الأرض، ولاحظ أن كل الأشياء تنجذب نحو مركزها، وقال: إن الحقائق الفلكية يمكن تفسيرها إذا افترضنا أن الأرض تدور حول محورها مرة في كل يوم، وحول الشمس مرة في كل عام، بنفس السهولة التي تفسر بها إذا افترضنا العكس.
موسوعة القانون المسعودي
ربما كان البيروني أكثر العلماء إلمامًا بتاريخ الحضارة الإسلامية، حيث نذر حياته كلها في البحث العلمي، رغم تنقله الكثير طوال حياته، فهذا القانون المسعودي هو المساوٍ في العصور الوسطى للمجسطي لبطليموس، الذي طوقته أعمال التحليل والنقد في العالم الإسلامي، في الفترة ما بين القرن الثاني الهـجري والقرن الخامس الهجري، وهو يمثل ذروة هذا المجال، وللأسف لم يصل هذا الكتاب ولا كتب البيروني الأخرى إلى الأندلس، ولهذا لم تُترجم أبدًا إلى اللاتينية، وظلت أوروبا القرون الوسطى غير عالمة بسطوع البيروني.
يعد كتاب القانون المسعودي، أحد المؤلفات الكبرى في علم الفلك والأرصاد، التي ظهرت في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، وقد أهداه مؤلفه أبو الريحان البيروني إلى السلطان مسعود بن محمود الغزنوي، والكتاب يعتني بكل ما توصل إليه العلماء في الحضارات السابقة، وكذلك المعاصرون له مع نقد مطلع وتفنيد الآراء دون تحيز أو محاباة.
يعتبر كتاب القانون المسعودي للبيروني موسوعة كاملة ومكتملة في علم الفلك في العصور الوسطى، فهو يمثل أنجح المحاولات لتصحيح وتنقيح كتاب المجسطي لبطليموس، وكانت معلوماته مبنية على ثلاثة قرون من البحث في البلاد الإسلامية.
وهو يحتوي على إحدى عشرة مقالة، كل منها مقسم إلى أبواب. وفي المقالة الرابعة من الكتاب جمع النتائج التي توصَّل إليها علماء الفلك في الهند واليونان والمعاصرون له، ولم يطمئن هو إلى تلك النتائج لاختلافها فيما بينها؛ ولذلك قرر أن يقوم بأرصاده الخاصة بنفسه، ولم يكتف بمرة واحدة بل أربع مرات على فترات متباعدة، بدأها وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين، حيث قرر أن يصنع آلته الخاصة؛ ليرصد بها أعماله الفلكية، وليضع حدًا لحيرته من تضارب نتائج علماء الفلك، وقام بتعيين الجهات الأصلية وتحديد الأوقات، ومعرفة فصول السنة، ورصد حركة أوج الشمس، وهو أبعد المواقع السنوية بين الشمس والأرض،
كما أثبت أن أوج الشمس غير ثابت. وقد استطاع بناء على أربعة أرصاد في المواسم الأربعة أن يحسب مقدار هذه الحركة بواسطة الحساب التفاضلي، وقد كان المقدار النهائي الذي أثبته الفلكيون المسلمون لهذه الحركة هو (12,09) ثانية في السنة، وهو تحديد يختلف قليلًا عن المقدار المثبت في العصر الحاضر وهو 11,46ثانية في السنة. كما رصد الكسوف والخسوف وشرح بطريقة واضحة الشفق والغسق. وحسب محيط الأرض بدقة فائقة ، وقام بقياس طول السنة على وجه دقيق، ودرس كسوف الشمس وخسوف القمر والفرق بينهما، وفسر أسباب ظهور الفجر قبل شروق الشمس باستنامة الغلاف الجوي، وبالمثل شفق ما بعد الغروب وأوقاتهما، وشرح الأسباب التي تمنع رؤية الهلال حتى مع وجوده في الأفق، وأوضح بالطريق الهندسي الحدود النسبية بين القمر والشمس، التي عليها تعتمد ظروف رؤية الهلال ما لم تتدخل العوامل الجوية، وأوضح الفرق بين النجوم (الكواكب الثابتة) والكواكب السيارة، وابتكر البيروني الإسطرلاب الأسطواني الذي لم يقتصر على رصد الكواكب والنجوم فقط، بل استُخدم أيضًا في تحديد أبعاد الأجسام البعيدة عن سطح الأرض وارتفاعها. كما اخترع جهازًا خاصًا يبين أوقات الصلاة بكل دقة وإتقان.
النسخ المحققة
طبع كتاب القانون المسعودي لأول مرة بمطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد الدكن بالهند عام 1373هـ/ 1954 م. ولقد بذلت فيه دائرة المعارف مجهودًا ضخمًا في سبيل طبع هذا الكتاب النفيس؛ حيث بقي في الخفاء مدة طويلة من الزمان، وقد تمت المقارنة بين النسخ السبعة والاعتماد على النسخة المخطوطة الرابعة الموجودة في مكتبة بايزيد بإسطنبول أساسًا للطبع. وتقع هذه الطبعة في ثلاثة أجزاء في نحو ألف وخمسمائة صفحة، عدا المقدمات والفهارس. وقد أعاد تحقيق المقالة الثالثة منه إمام إبراهيم أحمد، ونشرها المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة عام 1384هـ / 1965م.