كتب الله –تعالى- الحج على النّاس كافة بينما كتب باقي العبادات على المؤمنين فقط، وهذا فيه تنبيه على أهميّة هذه العبادة العظيمة لجميع النّاس مؤمنهم وغيرهم وأثرها الكبير في نفوسهم، واشتراكهم في التمتع بنعم الله –تعالى- والتي استدعاهم لبيته لشكره عليها. قال تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97]. وقال تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج: 27]. وإنّ من أكبر النعم التي ارتبطت بعبادة الحج في القرآن الكريم -والتي لا تحتاج لمزيد عناء لاكتشافها عند أقل محاولة للتدبّر والتفكّر في آيات الحج- هي نعمة الطعام.
البيت والطعام.
قال تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: 3، 4]. فعلاقة النّاس بالبيت الحرام هي علاقتهم برب يُطْعِم ويُؤمِّن، “وأُجري وصف الرب بطريقة الموصول الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ لما يُؤذن به من التعليل للأمر بعبادة رب البيت الحرام بعلّة أخرى زيادة على نعمة تيسير التجارة لهم، وذلك ممّا جعلهم أهل ثراء، وهما نعمة إطعامهم وأمنهم، فتأتيهم فيها الأرزاق ويتسع العيش، وإشارة إلى ما ألقي في نفوس العرب من حرمة مكة وأهلها فلا يريدهم أحد بتخويف .وتلك دعوة إبراهيم -عليه السلام- إذ قال: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ [البقرة: 136]”( ). فلا يمكن أن تستقر أمّة ولا أن تستقيم معيشتها بغير هذين الأمرين: الطعام والأمان.
ولقد حضر (البيت) ويُقصد به بيت الله الحرام في خمسة عشر موضعًا في القرآن الكريم، والبيت في القرآن ما كان معدّاً للسكنى وهو مظنة الأمن والراحة والطعام، قال تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا….. [النّحل: 80]. والبيت الحرام هو الكعبة بمكة المكرمة، قال تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ …. [المائدة: 97]. أي بها قوام حياتهم وأهم عناصر بقائهم واستقرارهم على هذه الأرض، وهما: الطعام والأمان.
إنّ عبادة الحج تربط النّعم الماديّة -وأعظمها الطعام والأمان- بالله سبحانه وتعالى، فتقيم الميزان بين الجانب المادي والجانب الروحي، وتذكِّر الإنسان بمصدر هذه النّعم وموجودها. فطغيان الجانب المادي يسبب الفساد في الأرض ويدمّر الإنسان والطبيعة، ويخرّب البيئة ويهلك الحرث والنّسل. والتوازن بين المادي والروحي يجعل الإنسان يتمتع بكل نعم الله -تعالى- وهو شاكر مُخبت لربه، يحافظ على هذه النّعم ويتعامل معها وفق مع يريد الله، لا وفق نظرة ماديّة أحادية.