عبد الله صقر – مركز المعلومات
يقول كامبل في كتابه (الطب العربي): “كانت الجراحة في الأندلس تتمتع بسمعة أعظم من سمعتها في باريس أو لندن أو أدنبره؛ ذلك أن ممارسي مهنة الجراحة في سرقسطة كانوا يُمنحون لقب طبيب جرّاح، أما في أوروبا فكان لقبهم حلاّق جرّاح، وظلَّ هذا التقليد سارياً حتى القرن العاشر الهجري”.
أثناء الفترة التي كانت أوروبا تعاني فيها من الجهل، وقلة المعرفة، وهي الفترة التي عُرفت باسم العصور المظلمة، حيث كانت الجراحة تُمارس في ذلك الوقت من قِبل الحلاقين، والجزارين، سطع نجم رجل لا يُعد فقط عالم من علماء المسلمين بل عملاق يعتبر من أعظم الجراحين الذين أنجبتهم البشرية عبر العصور والأزمان إن لم يكن أعظمهم على الإطلاق نبغ في مجال الطب والصيدلة والتشريح، وكان رائد الجراحة في الأندلس خلال العصور الوسطى، لذا أطلق عليه لقب أبو الجراحة الحديثة، إنه أبو القاسم الزهراوي خلف بن عبّاس الأنصاري. وقد وضع الزهراوي الأسس والقوانين التي بُني عليها علم الجراحة، والتي جمعت ما بين التعاليم اليونانية، والرومانية، والعربية، وله العديد من الكتابات الطبية، والاختراعات التي ما تزال تُستخدم حتى يومنا هذا.
يكنى بين أهله بأبي القاسم ويلقب بالزهراوي نسبة الى الزهراء إحدى ضواحي قرطبة ويعرف عند الغربيين بـ”ألبوقاسس” (Albucasis) وفي اسمه لقب الأنصاري نسبة الى الأنصار من المدينة المنورة.
وُلد أبو القاسم الزهراوي في مدينة الزهراء إحدى ضواحي قرطبة في الأندلس عام 422 هـ، الموافق لعام 1030م، ترجع أصوله إلى الأنصار من المدينة المنورة، فوالده هو عباس الأنصاري، الذي انضم للجيوش العربية التي فتحت الأندلس، ومن ثم استقر في الزهراء، وبعد ذلك انتقل إلى قرطبة، وقد نشأ الزهراوي في بيئة تولي اهتماماً شديداً بالعلم، والتفكير، وتنمية العقل، وهي الفترة التي كانت فيها الحضارة الإسلامية في أوج ازدهارها وتطورها.
فمدينة قرطبة وحدها كان بها 50 مستشفى، و70 مكتبة، وكانت مدارسها من أعظم المدارس في العالم في مختلف المجالات، مما جعلها تستقطب طلاب العلم من مختلف أنحاء العالم، تلقى الزهراوي علمه على يد علماء الأندلس، وكان شديد الاهتمام بعلم الجراحة، وطب الفم، والأسنان، وقد التحق للعمل في مستشفى قرطبة الذي أنشأه الخليفة عبد الرحمن الناصر، فأثبت جدارته، وبراعته في مجال الطب، والجراحة، مما أهله ليصبح الطبيب الخاص للخليفة، فذاعت شهرته حتى وصلت إلى بلاد المشرق.
لم يكن الزهراوي طبيباً وجراحاً ماهراً فحسب، ولكن كان ذا خبرة واسعة وكان طبيباً لعبد الرحمن الثالث المعروف بالناصر، ثم طبيباً لابنه الحكم الثاني المستنصر. وقد أثر الزهراوي تأثيراً عميقاً في أوروبا، فقد تُرجمت كتبه ومؤلفاته إلى لغات عديدة ودرّست في جامعات أوروبا الطبية. وسار على دربه العديد من الجراحين الأوروبيين، حتى أنهم في بعض الأحيان انتحلوا بعض اكتشافاته دون ذكر اسمه كمصدر أولي. بالإضافة إلى كونه رائد الجراحة الحديثة، كان أبو القاسم الزهراوي معلماً عظيماً. فكان لنصوصه الطبية دور كبير في تشكيل العمليات الجراحية الأوروبية حتى عصر النهضة وما بعده.
التشريح أولاً
كانت فلسفة الزهراوي الطبية تقوم على أن الطبيب الماهر لا يكون طبيباً إلا بعد معرفة تامة، ودراسة وافية لعلم التشريح، يقول: “لأن صناعة الطب طويلة، وينبغي لصاحبها أن يرتاضَ قبل ذلك في علم التشريح… لأنه من لم يكن عالما بما ذكرنا من التشريح، لم يخلُ أن يقع في خطأ يقتل الناس به”.
وكان اهتمامه بعلم التشريح ودراسته سبباً في الفتح الكبير الذي تحقق على يديه في علم الجراحة فضلا عن اختراعاته للأدوات الجراحية، وكان من الغريب واللافت أن علم التشريح كان علماً محتقراً من قبله، فجاء الزهراوي ليبدد هذه الأوهام، ويكون من أوائل الأطباء الذين يجرون العمليات الجراحية بأيديهم، فقد كان الأطباء من قبله يوكلون هذه المهمة لعبيدهم أو إمائهم.
إسهاماته في علم الصيدلة وصناعة العقاقير الطبية:
في علم الصيدلة كان الزهراوي رائداً في تحضير الأدوية باستخدام تقنيات التسامي والتقطير، كان كتابه الذي ترجم إلى اللاتينية تحت اسم «Liber Servitoris» له أهمية خاصة؛ لأنه يمد القارئ بالوصفات والشرح لكيفية تحضير عينات من العقاقير المركبة، وبعد قرن أو أكثر من وفاته بدأت شهرته تتوسع في آفاق العالم الإسلامي، من الأندلس إلى المشرق، فقال فيه مؤرخ الأطباء في المشرق ابن أبي أُصيبعة: “خلف بن عباس الزهراوي كان طبيبا فاضلا خبيرا بالأدوية المفردة والمركبة، جيد العلاج، وله تصانيف مشهورة في صناعة الطب، في مجال الصيدلة، تناول الزهراوي تحضير الأدوية المختلفة؛ حيث قام بوصف بعض التطبيقات مثل التسامي والصفق. كما قام الزهراوي بمناقشة عديد من الأمراض، وأسبابها، وكيفية الوقاية منها؛ فكان الزهراوي أول من قام بوصف مرض الناعور بشكل تفصيلي؛ حيث شرح الظروف الوراثية المحيطة به.
إسهاماته في طب الأسنان:
وللزهراوي إضافاتٌ مهمَّة جدّاً في علم طب الأسنان وجراحة الفكَّين، وقد أفرد لهذا الاختصاص فصلاً خاصّاً به، شرح فيه كيفية قلع الأسنان بلطف، وأسباب كسور الفك أثناء القلع، وطرق استخراج جذور الأضراس، وطرق تنظيف الأسنان، وعلاج كسور الفكَّين، والأضراس النابتة في غير مكانها، وبرع في تقويم الأسنان.
يقول عن قلع الأسنان: “ينبغي أن تعالج الضرس من وجعه بكل حيلة، ويتوانى عن قلعه إذ ليس منه خيف إذا قلع”. ثم يشير في حذق إلى أنه “كثيراً ما يخدع العليلَ المرضُ، ويظن أنه في الضرس الصحيح فيقلعها ثم لا يذهب الوجع حتى يقلع الضرس المريض”. وهكذا يصف الزهراوي -ربما لأول مرة في التاريخ الطبي- الألم المنتقل وخطره؛ مما يضعه على مستوى عصري حتى اليوم.