تحدّثنا سابقاً في هذا المكان عن أن الثقافة هي تلك العوامل المشتركة في طريقة الحياة لدى أفراد مجتمع ما: قيمهم وعاداتهم وأساليب حياتهم ولباسهم وغذاءهم وغيرها من السمات التي يصعب حصرها لأنه لا أحد ببساطة يمكنه الإحاطة بكل شيء يتعلّق بالثقافة. الشيء الواضح هو أن الثقافة محلية، كما يقول لنا علم الإنسان أو الأنثروبولوجيا.
يمكن القول إن هناك الكثير من المظاهر أو الجوانب الثقافية التي يمكن وصفها أول الأمر بالغريبة أو الشاذة والتي لم تصبح بعد جزءاً من الثقافة المحلية لكنها تسرّبت إليها تدريجياً وانتشرت دون وعي أو انتباه لتصبح هذه المظاهر في نهاية الأمر جزءاً لا يتجزّأ من الثقافة المحلية. هذا بالطبع يحتاج إلى عاملين مهمّين أولاهما عملية التطبيع لهذه الظاهرة أي تكرار مشاهدتها والتفاعل معها وعدم إنكارها والتصالح معها وممارستها من بعض أفراد المجتمع أو الثقافة، وثانيهما عامل الوقت الذي تحدث فيه عملية التطبيع هذه لكي تصبح هذه الظاهرة الغريبة مألوفة وجزءاً من الثقافة المحلية بعد أن يزيد عدد الممارسين لها تدريجياً بشكل يومي ومتكرر دون وعي. ولعل مظاهر العولمة المنتشرة في كل جزء من العالم أحد الأمثلة على ذلك والتي يمكن أن تجعل الفرد كائناً معلّباً نمطياً يتمتع بنفس السمات والخصائص التي يتمتع بها الآخرون وخاضعاً للسيطرة والتحكم إن هو تخلّى عن ثقافته المحلية التي تميّزه وتشكّل هويته.
هذا يعني أن من وظائف الثقافة هنا هي تحويل الشاذ أو الغريب إلى مألوف أو معتاد ونقله في نهاية الأمر إلى الثقافة المحلية، وكذلك أيضاً تحويل المألوف والمعتاد إلى الغريب والشاذ مرة أخرى، أي العكس تماماً. ويمكن التفكير في أمثلة تساعد على تجريد هذه الصورة وفهم هاتين الوظيفتين مثل قصات الشعر الغريبة أو الوشم، على سبيل المثال لا الحصر، التي يمكن ملاحظتها في المباريات الرياضية أو شبكات التواصل الاجتماعي والتي تعتبر مظاهر شاذة وغريبة ولا تمت بصلة للثقافة المحلية. يمكن أن تتحوّل هذه الجوانب وتتسرّب إلى الثقافة المحلية تحت ضغط عوامل التطبيع والوقت الذي يستمر فيه هذا التطبيع فتصبح في نهاية الأمر جزءاً من الثقافة المحلية.
الشيء الدرامي في هذه المقاربة هو أن هذه الجوانب أو المظاهر الثقافية الشاذة والمستوردة من ثقافة أجنبية مهيمنة والتي تصبح مألوفة مع الوقت، والجوانب الثقافية المحلية التي يتم التخلّي عنها والتي تتحوّل إلى شاذة مع مرور الوقت، تحدث ببطء وتنتشر كما ينتشر السرطان في الجسم في وقت يكون قد فات فيه أي مجال للتدخّل أو العلاج.
والأكثر درامية هنا هي أن الثقافة التي تغيرت فيها العوامل المشتركة التي نشأت الأجيال على العيش بها تفقد بوصلتها الأمر الذي يخلق أزمة هوية لدى أفرادها فيغيب بالتالي الإبداع الذي تحتاجه أي ثقافة تطمح أن تكون مؤثرة وفاعلة في هذا العالم.
khaledalawadh@