متابعات

الجزري.. رائد الميكانيكا الذي غير هندسة العالم

عبد الله صقر – مركز المعلومات

في العام 1931م كان متحف بوسطن للفنون الجميلة في الولايات المتحدة على موعد مع واحدٍ من عمالقة الهندسة في التاريخ، وأحد أعظم المهندسين والميكانيكيين والمخترعين في التاريخ.
فقد تم إيداع كتاب “الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل” للجزري في المتحف تقديراً من القائمين على تلك المتاحف والجهات العالمية لصاحب هذا الكتاب ومنجزاته العلمية الفريدة.
بديع الزمان أَبو العز بن إسماعيل بن الرزاز الجزري، ومنها جاء لقبه “الجزري”، ولد في جزيرة ابن عمر. وعاش عاش في الفترة من 1136 الى العام 1206م حيث كانت هذه الجزيرة جزءاً من بلاد الشام، وهي اليوم تتبع تركيا وتقع على خط الحدود مع سوريا مباشرة. ورغم أنها لا تطل على البحر، فإن تسمية الجزيرة أطلقت عليها لكثرة الأنهار حولها.


نبغ الجزري في العلوم الهندسية في سن مبكرة، حتى صار رئيساً للمهندسين في ديار بكر شمال الجزيرة الفراتية. حيث حظي الجزري برعاية حكام ديار بكر من بني أرتق، ودخل في خدمة ملوكهم لمدة خمس وعشرين سنة، فأصبح كبير مهندسي الميكانيكا في البلاط.
تعتبر مخترعاته في زمانها آنذاك بأنها الأولى في العالم كله، فهو من اخترع مضخات رفع الماء، وساعات مائية ذات نظام تنبيه ذاتي، وآلات موسيقية، وساعة الفيل، وغيرها العشرات، وورد على لسان المستشرق البريطاني دونالد هيل في مقدمة ترجمته لكتاب الجزري: أنه “صنع ساعات مائية وساعات تتحرك بفتائل القناديل وآلات قياس ونوافير وآلات موسيقية وأخرى لرفع المياه، كما صنع إبريقاً جعل غطاءه على شكل طير يصفر عند استعماله لفترة قصيرة قبل أن ينزل الماء”.
كان الجزري يجمع بين العلم والعمل والتحريض عليه ويمثل وصفاته للآلات وصف مهندس مخترع مبدع عالم بالعلوم النظرية والعلمية.

في ميزان المؤرخين
نرى للمرة الأولى في عمل الجزري عدة مفاهيم مهمة لكل من التصميم والبناء: تصفيح الأخشاب لتقليل التشوه إلى أدنى حد وتحقيق التوازن الثابت بين العجلات، واستخدام قوالب خشبية (نوع من النماذج) ونماذج الورق لإنشاء التصاميم، ومعايرة الفتحات وطحن المقاعد والمقابس للصمامات مع مسحوق الصنفرة ليلائم الماء، وصب المعادن في صناديق مقفلة مغلقة بالرمل)، مؤرخ التكنولوجيا الإنجليزية دونالد هيل.
يصنفه علماء الغرب في فترة النهضة المبكرة ومن أبرزهم دافنشي. كواحد من عمالقة الإبداع الهندسي الميكانيكي في العصور القديمة الذين هيأوا لظهور الميكانيكا الجديدة والرافعات والمولدات التي تعمل على نقل الحركة، وقد ساهمت مخترعاته بشكل عام في ظهور عصر الآلة والصناعة في أوروبا أو ما عرف بالثورة الصناعية.
كان الجزري أحد اركان النهضة العلمية في الحضارة العربية الإسلامية التي انتقلت فيما بعد إلى أوروبا. فقد اعترف العالم لين وايت والكثير من علماء الغرب أن الكثير من تصاميم الآلات التي ابتكرها الجزري قد نقلت إلى أوروبا، وأن التروس القطعية ظهرت لأول مرة في مؤلفات الجزري، وأنها لم تظهر في أوروبا إلا بعد الجزري بقرنين في ساعة جيوفاني دوندي الفلكية.
تغيير المفاهيم
غيّر الجزري مفهوم الطاقة والنقل والحركة من حيث الاعتماد على الدواب في نقل الماء ورفعها مثلا إلى استخدام الآلة والتروس وهي نقلة ليست بالسهلة في تاريخ العلم ووصف الآلات الضاغطة والرافعة والناقلة والمحركة وخصائص كل منها.
كما كان الجزري أول من تحدث عن ذراع الكرنك. كما ابتكر الجزري آلات رفع المياه، واستخدم الكرات المعدنية للإشارة إلى الوقت في الساعات المائية.
استمر الجزري في كتابة مادة كتابه الأبرز “الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل” نحو 25 سنة، وتحديدا عام 1206م، قام فيه بتصنيف الآلات في 6 فئات حسب الاستخدام وطريقة الصنع، وكانت هذه أساسا للتصنيفات الأوروبية في عصر النهضة.
ويعد الكتاب أحد أهم ما كتب في القرون الوسطى عن الآلات الميكانيكية والهيدروليكية مدعوما بالرسوم، وتمت ترجمته إلى عديد من لغات العالم.

الجزري والميكانيكا
هذا الفن كان يسمى عند العرب بـ “الحيل” وعرف عند اليونانيين باسم علم الميكانيكا وهو الشائع الآن، حيث يسعى الإنسان من خلال توظيف الأشياء وعلاقتها مع بعض في نقل الحركة وتوفير الطاقة والقيام بأعمال كثيرة في زمن أوجز وبجهد أقل.
وفن الحيل فيه الكثير من الذكاء الذي لا يتوفر لأي شخص كما فيه توظيف الخيال الواسع وهي أمور حبا الله بها الجزري ما مكنه من القيام بعدد كبير من الابتكارات الذكية، وهو يتبع منهجا يجمع بين العلم والعمل النافع كما يتضح من عنوان كتابه المشار إليه، فهو يرى أن علم الحيل يجب أن يخدم الناس وألا يصبح مجرد تسلية ومرح فحسب.
من تصميماته اختراعه مضخة ذات أسطوانتين متقابلتين، وهي تقابل حاليا المضخات الماصة والكابسة، كذلك ابتكاره نوافير رفع الماء عن طريق الاستفادة من الطاقة المتوفرة في التيار الجاري في الأنهار، ثم ابتكاره الآلات ذاتية الحركة تعمل بالماء كالساعات المائية والآلات الهيدروليكية العديدة التي ابتكرها علماء المسلمين وطورها الجزري.
توصل لأسمى اكتشافاته وهي النظرية التي تقول “إن الحركة الدائرية يمكنها أن تولّد قوة دافعة إلى الأمام”.
وقد قاده اكتشافه هذا إلى اختراع عمود الكامات (Camshaft)، وهو العمود الذي يدور بضغط مكابس المحرك فتتولد قوة دافعة للأمام كما يحدث في محرك السيارة. استخدم الجزري هذه التقنية في بناء مضخات مياه دافعة وساحبة، تمتعت بتقنية الحركة الذاتية من دون قوة دفع بشرية أو حيوانية.
ولعل أبرز نقطة تحول في اختراعات الجزري هي أن جميع آلات رفع الماء المعقدة قبل تصميمه كانت تدور بقوة دفع الحيوانات، وليس بقوة الماء، وهو الذي وضع أساس الاستفادة من الطاقة الكامنة للمياه بشكل عملي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *