د. نوف الروضان
يمثل يوم التأسيس فرصة عظيمة يتوجب علينا استثمارها للحديث عن الأرث التاريخي والحضاري المشرف ليكون من أبجديات ثقافة المجتمع السعودي جيلاً بعد جيل. ولا شك أننا نشهد اليوم وبحمد الله منعطفاً مهماً في هذا الصدد؛ حيث أصبحت المعلومات الدقيقة عن تاريخنا العظيم في متناول الأجيال بعد أن كانت تلك المعلومات حبيسة الكتب وحكراً على النخب والمتخصصين. إن استذكار البطولات والقيم والتفاصيل التي شكلت الملحمة السعودية عبر أدوارها المختلفة هو أمر بالغ الأهمية؛ إذ أن جمال وروعة الحاضر وما ننعم به من تقدم وازدهار، قد يُغيب عن جيل اليوم التضحيات والكفاح المتواصل الذي بذله قادة هذا الوطن ورجاله من أجل أن يشرق فجر الحضارة والنهضة على أرض هذه البلاد المباركة.
ويأتي يوم التأسيس ليبعث فينا كل معاني الفخر والاعتزاز بالجذور الراسخة؛ كما أنها فرصة تتجسد فيها معاني الوفاء والامتنان والتقدير للأبطال الذين صنعوا ماضينا وشكلوا ملامح حاضرنا ومستقبلنا. ويحتل الإمام محمد بن سعود الذي حكم الدرعية عام ١١٣٩ه/ ١٧٢٧م وأسس الدولة السعودية الأولي ،قيمة عظيمة خالدة في ذاكرة الوطن ؛ كيف لا وقد أمضى الإمام محمد بن سعود أربعين عاماً من عمره في سبيل التأسيس والتوحيد. وقد أوجد الإمام حالة سياسية فريدة وجديدة لم تشهدها المنطقة منذ ألف عام، عندما نجح في إقامة دولة عربية موحدة في جزيرة العرب؛ وهو الحلم الذي كان يراود كل عربي بسبب حالة الاقصاء والتهميش الذي عانت منه المنطقة وما صاحب ذلك من هيمنة الأعراق الأخرى على مكتسبات البلاد العربية وشعوبها .
وقد اجتمعت في شخصية الإمام محمد بن سعود صفات قيادية قلما تجتمع في شخص واحد . و لم يكن الإمام محمد بن سعود خلال المدة الطويلة التي قضاها في الحكم ، عفوياً تسيره الأحداث، بل كان صاحب استراتيجيات يخطط من خلالها سائر المواقف التي يتبناها في كل المجالات.
وبدأ منذ توليه الحكم بالعمل الدؤوب من أجل التغيير وإحداث الفرق ، مما أسهم في تأسيس منعطف جديد في تاريخ المنطقة تمثل في الوحدة والتعليم ونشر الثقافة وتعزيز التواصل بين أفراد المجتمع والحفاظ على الأمن ونقل الدرعية من النظام السائد المتعارف عليه وهو مفهوم دولة المدينة إلى دولة واسعة موحدة لم تشهدها الجزيرة العربية منذ دولة الخلافة الراشدة. لقد صنع الإمام محمد بن سعود تاريخ مشرف في المنطقة، واستكمل الأئمة من بعده على مدى ثلاثة قرون مسيرة الكفاح والنضال من أجل وحدة هذه البلاد، حتى تمكن الملك عبدالعزيز رحمه الله من توحيد المملكة العربية السعودية. وعند استعراض المحطات المفصلية في تاريخنا السعودي العريق، يتبين لنا هذا الترابط العميق والمذهل بين المواطن والقيادة رغم كل التحديات والصدمات التي تعرضت لها الدولة السعودية في أدوارها المختلفة. ويعكس هذا التلاحم بلا شك منظومة القيم التي تميز الإنسان السعودي، ومن جانب آخر يشير ذلك إلى قوة الحق وثباته واضمحلال الباطل وفنائه، قال الله تعالى: “فأما الزبد فيذهب جُفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال”. وأخيراً نسأل الله أن يديم علينا النعم ويحفظ بلادنا وولاة أمرنا.
** أستاذ التاريخ الحديث المشارك بجامعة الجوف