البلاد – خاص
كلما حل اليوم العالمي للاذاعة (الراديو) في الثالث عشر من فبراير من كل عام، يطرح السؤال ذاته كل مرة، ألا وهو: هل ستبقى الإذاعة وسيلة إعلامية قادرة على الحياة، وهل سيظل لها دور في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، التي أخذت تشغل اهتمام معظم الناس هذه الأيام؟ ام ان الاذاعة في طريقها الى التراجع والاندثار؟
وتحتفي الأمم المتحدة باليوم العالمى للاذاعة تزامناً مع ذكرى إطلاق إذاعة الأمم المتحدة التي أنشئت عام 1946م، وتعتقد أنها لا تزال فعالة في التواصل والتغيير، وتضطلع بدور كبير في التواصل في حالات الطوارئ والكوارث.
وجاء تحديد هذا اليوم بمبادرة من الأكاديمية الإسبانية للإذاعة قدمتها إلى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “اليونسكو” خلال شهر سبتمبر عام 2011م في الدورة الـ 187 لمجلسها التنفيذي. فيما اعتمدت المنظمة اليوم العالمي للإذاعة خلال مؤتمرها العام في دورته الـ 36 .
وتشدد “اليونسكو” على أهمية الإذاعة باعتبارها مصدراً حيوياً للمعلومات أثناء الكوارث الطبيعية وأداة مركزية في الحياة المجتمعية.. ويهدف الاحتفال باليوم العالمى للإذاعة إلى تسليط الضوء على مكانة هذه الوسيلة الأساسية للإعلام والاتصال في المشهد الإعلامي المحلي والعالمي بجانب التعاون الدولي بين مختلف الإذاعات في العالم.
“الأذن تعشق قبل العين أحياناً”
ليس أكيداً أن مخترع الإذاعة كان يعرف هذه المقولة قبل أن يشرع في اختراع جهازه الذي غير مجرى الأخبار، إلا أنه أكدها فعلاً، فعبر نداءات “هنا لندن” التي ردت عليها جارتها النازية “هنا برلين”، أطلق العرب من خلال مصر الموجة بـ “هنا القاهرة”، ثم توالت موجات الـ “هنا” في كل مكان في العالم، ليغدو الصوت وسيلة لتعلق الناس وتجمهرهم لمعرفة قرار البرلمان البريطاني من دخول الحرب العالمية الثانية، أو ما هو الشيء الفظيع الذي كسر اليابان في هيروشيما وناغازاكي، أو كم طائرة إسرائيلية أسقطتها القوات العربية في “حرب النكسة” التي تبين زيفها في ما بعد، فعشقت الأذن هذا المذياع الصغير وكرهته أيضاً.
الوسيلة الإعلامية الجديدة أتت بعد سنوات من هيمنة الصحف على نشر الخبر، فقال صحافي وراق بعد ظهوره “رجل يتكلم في موناكو، ويسمعه آخر في لندن، إنها النهاية”، لينقلب حال الإعلام بعدها ويعاد ترتيب الأدوار بوظائف جديدة لكل وسيلة، وتأثير بالغ للصوت لا تحمله الكلمة المكتوبة.
نشأة الإذاعة عالمياً
كانت أولى الإذاعات في العالم ظهوراً إذاعة KDKA في مدينة بيتسبرغ، ولاية بنسلفانيا عام 1920م، تلتها شركة البث البريطاني وإذاعة “بي بي سي” في الظهور عام 1922م، ومنذ ذلك الوقت أصبحت الإذاعات مصدراً مهماً لتلقي المعلومات، إضافة إلى الترفيه والتسلية.
خلال الحرب العالمية الثانية لعبت تلك الوسيلة دوراً مهماً في بث أخبار الحرب ، بخاصة بعد إغلاق محطات التلفزيون، وقامت الحكومات باستخدام الإذاعات لكسب التأييد الشعبي للحرب من قبل الجمهور، أما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية فقد تغير مجرى الإذاعة بعد أن كانت مصدراً للترفيه من خلال سلسلة من البرامج، ليصبح تركيزها على بث الموسيقى، وانتقل الجمهور المستهدف من العائلات إلى المراهقين والشباب، وظهرت بعدها موسيقى الـ “روك آند رول” الشهيرة.
ويعد عام 1926م أحد أعوام نهضة الراديو، بدءاً من عرض برامج درامية عدة، إلى برامج حوارية والتنافس على من يسبق الآخر في سرعة إيصال المعلومة، كذلك الحصول على مواد ترويجية.
فيما يعد العصر الذهبي للمحطات الإذاعية بين أعوام 1930م ومنتصف 1950م، مع تحول المذياع إلى وسيلة لتسلية العائلات، ليتحول هذا الأمر إلى روتين يومي، يجتمع فيه الأقرباء والأصدقاء لمتابعة برنامج إذاعي معين. كما أدى تقدم وتطور الإذاعات وبرامجها إلى اكتساح شهرة المذياع عدداً كبيراً من وسائل الترفيه والاطلاع والتسلية، مثل الجرائد والندوات وغيرها، فمما يذكر أن المراسل الميداني كان يذهب لتغطية حدث أو ندوة معينة، ثم يعود بالخبر إلى المحطة الإذاعية لتلاوته وإعلام الناس به.
تاريخ الإذاعة العربية
تعود نشأة الإذاعة في الوطن العربي إلى ما قبل العام 1938م على فترات مختلفة وأوضاع وظروف متباينة، ففي بعض الأقطار نشأة الإذاعة في الوطن العربي بمبادرات فردية من قبل بعض المهتمين بهندسة الراديو، وفي بعض الأقطار على يد القوى الاستعمارية التي أوجدتها أساساً لتحقيق أهداف عسكرية واستراتيجية، في حين لم تظهر في أقطار أخرى إلا غداة استقلالها.
وتشير الباحثة ريم عبود في دراسة نشرتها بعنوان “مدخل إلى الإذاعة والتلفزيون”، إلى أن الجزائر ومصر أولى الأقطار العربية التي عرفت الإذاعة المسموعة في حوالى عام 1925م، وظهرت في الحالتين على يد أفراد وإن اختلفت بالطبع، ففي الجزائر ظهرت على يد مستوطن فرنسي قام بإنشاء محطة إرسال على الموجة المتوسطة لم تتعد قوتها 100 كيلوواط، ثم ارتفعت عام 1928 إلى 600 كيلوواط وتذيع باللغة الفرنسية، والأخرى بقوة 200 كيلوواط وتذيع باللغة العربية، إلى أن ظهرت أول إذاعة رسمية في الجزائر عام 1963م.
أما مصر فقد عرفت الإذاعة عام 1926م، عندما استصدر هواة اللاسلكي في ذلك الوقت رخصاً من وزارة المواصلات لإنشاء محطات إذاعية أهلية، وظهرت المحطات الأهلية في كل من القاهرة والإسكندرية، ومنها راديو القاهرة، راديو فؤاد، مصر الحرة، مصر الملكية، أبو الهول، الجيش، وكان بعضها يذيع باللغة العربية والأخرى بلغات الأجنبية، وتم إلغاء هذه الإذاعات العام 1932م لتترك مكانها للمحطة الحكومية التي بدأت إرسالها عام 1934م.
ومنذ ذاك الوقت توالى ظهور الإذاعات العربية خلال النصف الثاني من ثلاثينيات القرن الماضي فظهرت في تونس عام 1935م، وفي العراق عام 1936م، وفي لبنان عام 1938م، وفي ليبيا عام 1939م، وفي الأربعينيات في كل من السودان عام 1940م، وسوريا عام 1941م، والصومال عام 1943م، واليمن الشمالية عام 1947م، وفي الأردن عام 1948م، وتأسس النظام الإذاعي في السعودية عام 1949م، وفي الخمسينيات ظهرت الإذاعة في كل من الكويت عام 1951م، واليمن الجنوبي عام 1954م، وموريتانيا عام 1956م، وقطر عام 1968م، والإمارات عام 1969م، وسلطنة عُمان عام 1970م.
ميلاد الإذاعة السعودية
ميلاد الإذاعة السعودية جاء في عهد الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود عام 1949م “عندما أصدر مرسوماً ملكياً وضع فيه الإطار العام للإذاعة”. وبالفعل أنشئت أول محطة إذاعية سعودية في مدينة جدة، حيث بدأ إرسالها في اليوم الأول من أكتوبر (تشرين الأول) 1949م، ببث كلمة ألقاها الأمير فيصل (الملك بعد ذلك) بمناسبة الوقوف بعرفة في الحج، تضمنت تهنئة الحجيج بمناسك الحج والترحيب بقدومهم في الأراضي المقدسة، حتى بدأ البث الإذاعي من إذاعة الرياض بعدها بتسع سنوات عام 1965م.
تميز الراديو
بالرغم من توسع رقعة وسائل التواصل الاجتماعي بين الأفراد بعد انتشار الهواتف الذكية في معظم بقاع الأرض، مع من يستطيع تحمل تكلفة الإنترنت وخط الهاتف، فلا يزال الراديو أكثر وسائل الإعلام إتاحة للناس في سهولة ويسر وبأقل تكلفة. فبعد اختراع الأجهزة التي تشحن يدويا ولا تحتاج إلى بطاريات، وتلك التي تشحن بالطاقة الشمسية، أصبح جهاز الراديو متاحا في كل مكان، وأخذت الإذاعة تتسلل معه إلى أرجاء جديدة. وقد تكون طبيعة الراديو ذاتها أحد العوامل التي هيأت له البقاء حتى الآن، وستكفل له طول العمر في المستقبل. فهو وسيط يمنحك حرية تخيل وتصوير ما تسمعه. إذ يمكنك رسم تصور للمذيع أو المذيعة في ذهنك في الصورة التي تحلو لك، ورسم صورة للأحداث التي تنقل إليك في رأسك بحرية يفتقدها مشاهدو التليفزيون. وإن كان الراديو يكلم الملايين، في القرى والمدن والبلدات، والأقطار، فإنه في الوقت ذاته يتكلم إليك أنت وحدك، فأصواته موجهة إليك، تتسلل إلى رأسك عبر أذنيك لتظل بداخلك فيكون تأثيرها أكبر. فهو أداة شخصية، أما التليفزيون فوسيلة جماعية، إذ عادة ما يشاهده الناس جماعاتٍ. ويتميز الراديو بالسرعة في نقل الحدث المباشر، فالإذاعي لا يحتاج فيه إلا إلى جهاز تسجيل وميكروفون. وليس أمام الراديو حدود، فإشاراته تبلغ الجبال والمحيطات، والريف والحضر، وهو لذلك وسيلة مهمة للتقارب بين الثقافات. ويستطيع مستمعو الراديو الاستماع إليه وهم منهمكون في أداء عمل آخر، على نقيض التليفزيون والصحف، ووسائل التواصل الاجتماعي.
ويتميز الراديو بميزة أخرى، هي أن عدته الوحيدة في التواصل هي الصوت البشري بما يحمله من لكنة مميزة لكل مذيع، وما فيه من دفء، وعاطفة، وغضب، وألم، وضحك أحيانا، وما يطرأ عليه من تردد، وتوقف، وبطء أو إسراع، وعلو أو انخفاض في الصوت. والراديو وسيط إعلامي يمد متلقيه بالمعلومات، ووسيلة تعليم، وتسلية. وهو يستخدم في الحروب، وحالات الكوارث، وفي السجون، لتبادل المعلومات، وإبلاغ البيانات، والترفيه والتسلية. وتعمل الإذاعة على إعلامنا بتغيير أحوالنا عن طريق برامجها الترفيهية والإخبارية، وكذلك البرامج الحوارية التي تُشرك فيها المستمعين. فلا يشعر الإنسان الذي يملك مذياعاً بالوحدة أبداً، بل يشعر دائماً بوجود صديق له في الإذاعة. لكن مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، فتراهم فرادى منعزلين، ينكب كل منهم على جهازه، حتى وإن كان يجلس بين أهله، فاقدا التواصل مع كل من يحيط به.ومن مميزات الراديو التي قد لا ينافسه فيها وسيط آخر -كما يقول خورخي ألباريز رئيس الأكاديمية الأسبانية للراديو- تخطيه للحدود، ووصوله بحرية، وبسعر زهيد، إلى نواحي العالم المختلفة.