في كل رحلة، كنت أيمم فيها نحو مشارق الأرض أو مغاربها كان والدي – رحمه الله – يذكرني بأن أبحث له عن قلم parker 51 وهو ذلك المنتج الذي شكل في فترة الخمسينات والستينات من القرن المنصرم مايشبه تقليعات الموضة الحديثة بكل جمالياتها وتعقيداتها وسطوتها على المجتمعات!
كانت وصية والدي، أن أبحث عن ذلك المنتج مع تأكيده الدائم أن أتنبه لقضية أصالة القلم بمعنى ألا يكون مغشوشًا وأن يكون أخضر اللون من النوع العريض، وليس الرشيق مع التأكد من حجم ريشة الكتابة وتنتهي الوصية بالتنبيه أن أتأكد من أن الفص العلوي للقلم سليمًا وثابتًا في مكانه لايتزحزح حين يسقط غطاء القلم عن طريق الخطأ!
توفى رحمه الله، وفي مقتنياته الخاصة عدة أقلام باركر ٥١ كان ينتشي وهو يناوب بينها في جيبه العلوي ويسرد للأقران مدى جمال الكتابة بها وجودة خطها وتنوع لون الأحبار في جوفها حسب طبيعة المكاتبة وحالة الاستخدام! بل إنه كان من وقت لآخر يطلب منا إحضار قصاصة ورقية ليطبع عليها جمالًا يكاد يذهب بالأبصار!
لم تكن العلاقة بين أبي وقلمه علاقة حيّ مع جماد، بل علاقة علمية بامتياز تعكس قدر الكتابة وجمال الخط ووضوح الأحرف لتشكل مجتمعة حقًا بينًا خُطّ بأداة فارهة! كانت علاقة تحتفي بالكتابة تمامًا كما تحتفي بالقراءة وتقدر القلم بذات القدر الذي تحترم به اللسان!
تذكرت كل هذه الفلاشات السريعة من سيرة أبي وأنا أقرأ تغريدة قبل عدة أيام حول خط رديء جدًا لأحد المتعلمين يظهر بندم مدى تدني مستوى الخط وضياع الإملاء وغياب التعبير الواضح عن المعنى! مؤلم أن تحتل الكيبورد مكان القلم فتكون النتيجة غياب كثير من المهارات بجانب غياب القلم نفسه! ومؤلم أيضًا أن نعتقد أن الإفراط في استخدام التقنية في التعلم والتعليم بديل موثوق للتعليم الأساسي والمؤصل!
لايمكن للمعلم ولا لأستاذ الجامعة أن يقضي جل وقته في تعليم طلابه كيف يستخدمون القلم، وكيف يجودون الإملاء ويقيمون المعاني، إن لم يكن لدى الطالب من العزيمة مايجعله يلتحق بدورات – جلها مجانية – تتعامل مع الخط والإملاء والتعبير وتسترق من سطوة التقنية مايعيد لليد شيئًا من مهارتها في الضغط على القلم بنفس مهارة الصغط على أزرار لوحة المفاتيح!
المعلم غير المتخصص، وإن كان معفى من تعليم المهارة فإنه يمكن له المساهمة في هذا المشروع الرابح من خلال تكثيف فروض الكتابة على طلابه والتي ستحسن بدورها من صحة الإملاء، وربما ينتشي معها التعبير في الكتابات الأدبية تحديدًا !
نريد أن نعيد للقلم قيمته ! لأنه موضع القسم في” ن والقلم ومايسطرون” ومضمار الترقي في اقرأ وبين هذين الشرفين العظيمين يحسن التنافس وتشد العزائم وترتقي الذائقة!
linguist_abdul@yahoo.com