كنت اتحاشى كثيرا الحديث عن التوسع الملحوظ في أعداد الملتحقين ببرامج الدراسات العليا لدينا وإذا ما كان هنالك فعلًا حاجة حقيقية لذلك الوقت والجهد الذي يقضيه الطالب لإنجاز هذه المهمة.
ما منعني عن الحديث عن هذا الأمر بشكل أساسي هو احتمالية أن يغلف هذا الموضوع بكثير من سوء الظنون فمن غير المقبول لدى البعض أن يتحدث من أكمل دراسته العليا عن جدوى تلك المهمة من عدمها أو أن يقف ناصحًا لغيره بالامتناع عما قام هو به! منعني أيضا احتمالية عقد المقارنة بين التخصصات ، والمفاضلة بين المناهج البحثية ، وحاجة قطاعات الأعمال للدراسة ، وأثر الدراسة على مقرات التعليم والتعلم ، وكل هذه الأمور حساسة جدًا لدى المتلقي وقلما ينجو الكاتب من مهاجمة من يظن أنه المقصود بالحديث أو المعني بالتلميح قبل التصريح.
أما وأني قد جمعت ذخيرتي واستجمعت قبلها رباطة جأشي فإنني أجزم أن التوسع الملحوظ في الانخراط في برامج الدراسات العليا دون ظهور أثر ملموس ومشاهد بشكل واضح بعد انهائها في: طرق تفكير الباحث، وفكره الناقد ، ومنهجيته في التعامل مع المشكلات ، وبراعته في التعاطي مع المستجدات ، وخلق فرص من الاحتمالات ، وتطويع أهم التحديات ، سيكون مجرد اضاعة وقت واستنزاف موارد وخلق معرفة وهمية لا تحقق انتصارا على جهل الذات ولا فوزًا على متطلبات التنمية والنماء.
ماذا يعني أن يكون لدينا آلاف المتخرجين بدرجة الماجستير والدكتوراه في تخصصات تربوية وتعليمية دون أن ينعكس أثر ذلك على الحقل التعليمي وكفاءة المخرج ؟ وما فائدة أن يكون بيننا من درس ضبط الجودة والمواصفات والمقاييس ومع ذلك لم يتحقق الحد الأدنى من معايير حسن المنتج أو مناسبة مواصفاته ؟ وهل هنالك معنى لبراءة اختراع لا يتم تفعيلها بل وينتظر صاحبها الأقدار لتقوم بذلك ؟ وهل هو استثمار مجدٍ أن يمكث بعض الطلاب ما يزيد على ٧ سنوات في الغربة لكي يدرس تخصصًا متاحا محليًا ومشبعا بحثيا ومتواضعا في تأثيره التنموي؟
إن أقل درجات الشفافية اليوم أن نكثر من التساؤل حول قيمة الدراسات العليا بوصفها ممارسة متقدمة ومشروعا وطنيا تنمويا رابحا لا ينبغي أن يتاح لمن يبحث عن مجرد اللقب العلمي أو الوجاهة المجتمعية أو المفاخرة بين الأقران ! وإن ما عمدت اليه مسارات الابتعاث الجديدة خطوة غاية في الرشد في هذا الاتجاه.
نحن بصدق لا نريد صفًا من الدكاترة لا تختلف قدراتهم الفكرية والنقدية والتجريبية والتأملية والتحليلية الاستباقية عمن يقلون عنهم في الدرجة العلمية لأننا حين نقبل بهذا فنحن نصنع معرفة وهمية لا تخلق إرثًا فكريا معتبرًا ولا تؤسس لتنمية تناسب تطلعات الوطن العظيم وإن أصرينا على منح هذا الشرف للجاد وغير الجاد فعلينا الا نستغرب – عوضا عن أن نتساءل – عن سبب تفشي المعرفة المتواضعة وهشاشة العارفين.
linguist_abdul@yahoo.com