مرَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات يومٍ بسائلٍ كبيرِ السن ضريرِ البصر، فقال له: من أيِّ أهل الكتاب أنت؟ قال يهودي، قال عمر: فما ألجأك إلى السؤال؟ قال: أسأل الجزية، والحاجة، والسن!! فأخذ عمر بيده إلى منزله، وأعطاه شيئًا من المال، ثم أرسل إلى خازن بيت المال وقال له: انظروا هذا وضرباءه، فوالله مَا أَنْصَفْنَاهُ أَنْ أَكَلْنَا شَبِيبَتَهُ ثُمَّ نَخُذُلُهُ عِنْدَ الْهَرَمِ!!
وفي العصر الحديث توصَّل الاقتصاديون إلى فكرة التأمينات حيث يُستقطع من رواتب الموظفين كل شهر نسبة معينة (تبلغ لدينا في المملكة 9٪) ويستمرُّ ذلك طوال حياتهم الوظيفية التي قد تزيد عن 35 عامًا، ويتم استثمار هذه الأموال، وتُدَّخر لهم عندما يصلون إلى سن التقاعد؛ لتُصرف لهم رواتب شهرية وفقًا لأنظمة محددة تُنظِم هذه الأمور.
وتنبغي الإشارةُ إلى أمر مهم فليس الشباب من يُنفقون على المتقاعدين كما قد يظن البعض!! فلا يُستقطع من رواتب الشباب لتصل إلى المتقاعدين، هذا خطأ ووهمٌ كبير.
ونظريًّا لا يُفترض أن تكون هناك أية أزمات تتعلق بتدبير أموال التقاعد، بل ينبغي أن تكون الموارد المالية لمؤسسات التقاعد ضخمة للغاية؛ لأنها ليست أموالًا محبوسة أو ساكنة بل هي تُستثمر وتدور في السوق، وبالتالي تتضاعف الموارد، أما إذا كان هناك ثقبٌ أسود – كما يسميه بعض الاقتصاديين – يبتلع أموال التقاعد فهذه أزمة أخرى يتسبب فيها سوء إدارة أموال التقاعد، وليس عدم كفاية هذه الأموال لتغطية رواتب المتقاعدين فهذه مغالطة كبرى، وادعاء عارٍ عن الصحة.
ومسألة التقاعد متداخلة ومتشابكة فهي ليست مجرد مسألة اقتصادية فقط وهذا جانب مهم ولا شك، لكن للتقاعد أبعاد أخرى: اجتماعية ونفسية وإنسانية ربما كانت أكثر أهمية من البُعد الاقتصادي وحده!!
لقد أفنى المتقاعدون أعمارهم في خدمة وطنهم، وتم استقطاع نسب كبيرة من رواتبهم الشهرية على مدى عقود طويلة لاستثمارها لهم، فهي حقهم، وهم لا يتسولون ولا يستجدون شيئًا من أحد، ومن حقهم الحصول على حياة كريمة، وليس من المنطقي أن يأتي من يتشكَّى من ثقل أعباء رواتب المتقاعدين، وينوء بحملهم ويقول لهم: نحن لا نستطيع تحمُّل رواتبكم، فهي أموالهم في الأساس، وهم لا يتسولون ولا يستجدون شيئًا من أحد!!
وإذا كان هناك خللٌ ما في استثمار أموال التقاعد فهذا الأمر يخصُّ القائمين على هذا العمل، وإن كان نظام التأمينات غير مناسب ومآله للسقوط – كما يزعم البعض – فهذا ليس من شأن المتقاعدين، ولا داعي إذن لاستقطاع أي ريال من أي موظف بذريعة استثمار هذه الأموال لحين بلوغه سن التقاعد، كما لا داعي لأن يترك الإنسان عمله في سن معينة، بل يظل يعمل ويتقاضى راتبًا عن عمله طوال حياته حتى يتوفاه الله، أو حتى يستثمر في مشروع خاص به، وهذا هو شأن المهن الحرة، مثل: (الكهربائي، والسباك، والنجار … إلخ).
يجب إذن ألَّا يدفع المتقاعدون الثمن مرتين: مرة عند اقتطاع نسب من رواتبهم وهم على رأس العمل، ومرة أخرى حين نقسو عليهم ونطالب بتقليص رواتب تقاعدهم في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة.
أكاديمي وكاتب رأي
GhassanOsailan@