من العادات والممارسات المحمودة في مجتمعنا ، أننا ننادي بعضنا ـ بطويل العمر ـ أو طال عمرك ، ففيها دعوة مستترة بطول العمر للمنادي عليه ، والشاهد ، أن التطور العمري للبشرية عبر السنين آخذ في الازدياد ، حيث كانت الأعمار ما بين 18 ـ 20 سنة وهذه بالطبع نسبة قصيرة جدا في عمر الإنسان.
وفي منتصف عام 1800 ارتفع متوسط عمر الانسان إلى 30 سنة ، حتى قفز في نهاية القرن ال 20 إلى 77 سنة حيث أن زيادة عمر الإنسان كانت تتزايد كل 3 أشهر ، وذلك ناتج عن الاهتمام بصحة الأجنة أثناء الحمل وبعد الولادة ونوعية الغذاء والعلاج ومكافحة الأوبئة والأمراض وزيادة الوعي الصحي وأثره علي الحياة عموما.
إلا أن هناك من ينظر إلى قضية ـ طول العمر ـ بأنها عبء على المجتمع بل على البشرية جمعاء ، وهناك آخرون ينظرون إلى هذه القضية بإيجابية أكثر ، ويعتبرونها فرصة للاستمتاع بالعيش الطويل ، لذلك يتوجب علينا أن نحسن ونطور من طريقة عيشنا وجودة حياتنا لكافة الأعمار.
والأمر الطبيعي ، فإن ـ طول الأعمار ـ سيكون عائقا أمام البشرية لتوفير الأموال المطلوبة لتلبية احتياجات كبار السن من المتقاعدين ، وذلك بعد أربعين سنة من العمل المتواصل ، وبذلهم جهودا خارقة في البناء والتشييد والإنجاز والعطاء ، حيث مداخيل التأمينات التقاعدية لا تكفي للصرف عليهم لأربعين سنة أخري ، وهو متوسط الأعمار المتوقع خلال العشر سنوات القادمة.
ولكن أين تكمن المشكلة؟
هل هي في البكاء علي اللبن المسكوب ، والشكوى من طول أعمار المتقاعدين ، واعتبارهم شريحة من المجتمع أدت دورها في بناء الحياة ، وانتهى بها المطاف إلى الركون والتقاعد ، وهم يشكلون عبئا ماديا على المجتمع ونظم التأمينات التقاعدية.
هذه هي الصورة الصعبة لنكران الجميل لهؤلاء المتقاعدين من كبار السن ، أو من هم في حاجة للرعاية المجتمعية ونظمه الحية ، والتي تتغير وفق متطلبات الحياة ، وحركة التطور البشري والذي يتوافق مع سنن الزمن والكون.
وأرى أن السبب الرئيسي في عدم إيجاد الحلول لكفاية موارد التأمينات التقاعدية وزيادة مداخيلها في أي مجتمع ، هو عدم استشراف المستقبل والتعامل مع توقعات الزيادة العمرية للسكان عامة وشريحة المتقاعدين خاصة ، والتخطيط الاستباقي للاستثمارات التقاعدية ، إلى جانب قصور النظم الاجتماعية وتخلفها عن مواكبة المتغيرات المتوقعة لكفاية الإعاشة والصحة الوقائية والعلاج والسكن الكريم وايجاد الفرص الوظيفية لمن يرغب من المتقاعدين في العمل وألتي تتوافق وقدراتهم البدنية والذهنية.
هذا ولا يجب أن يغيب عن أذهاننا ، بأن هناك دولا تحد من الإنجاب ، وأخرى تواجه نقصا حادا في الفئات العمرية الشابة ، نظرا لوعي الشعوب في الاكتفاء بمولود واحد لذلك فهي تستعين وتعتمد على تشغيل الفئة العمرية الكبيرة وذلك لتعويض النقص الحاصل في القوي العاملة الشابة.
وتجدر الإشارة هنا ، إلى أنني لا أنادي بالحد من الإنجاب ، حيث بيننا وبين مثل هذه القرارات مسافات زمنية فلكية ، ولكنني أنادي جهات الاختصاص باستشراف المستقبل والتخطيط الأمثل لاستثمارات التأمينات التقاعدية وتغيير نظم التقاعد المعمول بل وتطويرها وتحسينها ، على أساس أن طول العمر ليس عبئا على المجتمعات بل هو فرصة ذات مدلولات اجتماعية واستثمارية متطورة تحاكي رفاهية الشعوب وجودة الحياة بكل أعمارها.