قبل مدة قصيرة تبادل كثير من المجموعات والأفراد عبر منصات التواصل الاجتماعي مقطعًا كوميديًّا كوريًّا يصور التذبذب الإداري الذي يتفاجأ به بعض الموظفين في الكثير من الشركات والمؤسسات؛ ونتيجة لذلك التذبذب أصبح الموظف لا يدري ماذا يفعل ولا كيف يتصرف؟!! نظرًا لعدم قدرته على توقُّع أي شيء بسبب العشوائية والتخبط الإداري!!
وقد ضحكنا وتندرنا على المقطع الكوري ربما أكثر من الكوريين أنفسهم!! لأن هذا المقطع عبَّر بصدق عن واقع الإدارة العربية، حيث نجدها مزيجًا مختلطًا من الأنماط الإدارية العالمية!! جزءٌ منه روسي، وجزءٌ أمريكي، وجزءٌ بريطاني، مع النكهة العربية بالتأكيد؛ الأمر الذي دعا أحد علماء الإدارة المصريين إلى وصف النمط الإداري العربي متهكمًا بأنه نمط (سمك لبن تمر هندي) قاصدًا أنه مزيج غير متجانس من عدة أنماط إدارية مختلفة عن بعضها البعض!!
ولا شك أن الإدارة الحديثة تكتسب في عالمنا المعاصر أهمية كبيرة، وتزداد أهميتها يوماً بعد يوم لأنها قاطرة التقدم، وهناك أنماط إدارية متعددة، منها: الإدارة بالأساليب، والإدارة بالأهداف، وهذان نمطان تقليديان، ومن الأنماط الحديثة ما يسمى بالإدارة بالرؤية، والإدارة المرئية، ولكل نمط تعريفاته وسماته التي يعرفها المتخصصون في هذا المجال.
ولسنا هنا بصدد كتابة دراسة علمية عن أنماط الإدارة، بل نحن معنيون بالبحث عن أسباب ما نلمسه من عشوائية وتضارب في أساليب الإدارة العربية الحديثة، وإذا اعتمدنا نظرية عالم الاجتماع الهولندي (هوفستيد) القائلة بأن الفوارق الثقافية تؤثر على الإدارة في كل مجتمع أو في كل أمة، فسوف نتفهم طبيعة الأسباب التي جعلت الإدارة العربية بهذا القدر من التضارب والعشوائية!!
إن من يتعمق في الجذور الثقافية والفكرية للإدارة العربية سيجد أن الإسلام يحثُّ على المشورة والمشاركة في الأمر، قال تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) ويؤكد التطبيق العملي في فجر الدولة الإسلامية اعتماد الأسلوب التشاوري غير الملزم في صنع القرار، لكن بعد ذلك هيمنت ثقافتنا المحلية على المشهد، وشكَّلت عصب النمط الإداري الذي نسير عليه في عالمنا العربي حتى الآن!!
وقبل الحملة الفرنسية على مصر والمشرق العربي كانت الحياة تسير وئيدة بطيئة بوتيرتها الهادئة المعتادة، ومع أول احتكاك حضاري بين العرب والغرب بدأت أعينهم تقع على أنماط إدارية حديثة مثل رغبة المصانع والمناجم والمحاجر والشركات تحقيق أقصى قدر ممكن من المكاسب، وهنا اختلط الأمر، وآل إلى ما نحن فيه من عشوائية واضطراب!!
وقد أجرت شركة الاستشارات الإدارية العالمية (هاي قروب) دراسة علمية على (500) رئيس تنفيذي و(2000) موظف في العالم العربي، وكشفت نتائج الدراسة عن أن (70٪) من الرؤساء التنفيذيين لدينا يفضلون نمط (الإدارة الصارم)، وأن (3.5 ٪) فقط منهم يحققون إنتاجية عالية في مؤسساتهم، وأشارت النتائج إلى أن غالبية الرؤساء التنفيذيين في العالم العربي لا يدعمون مناخ النجاح والتطور، وأن (16٪) منهم فقط يساهمون في خلق بيئة عمل إبداعية، بينما (62٪) يؤثّرون بشكل سلبي على مرؤوسيهم الخاضعين لإدارتهم، وهذا يُفقد المؤسسات المختلفة أصحاب المواهب المتميزة والكفاءات الاحترافية بسبب نمط الإدارة المتبع الذي يقتل الإبداع!!
أكاديمي وكاتب رأي
GhassanOsailan@