في تاريخ المجتمع السعودي، رجالٌ أجادوا رسالتهم التربوية، وغرسوا في ضمير الأمة، بأن الوطن لا يقوم إلاّ بسواعد أبنائه .. ولهذه النماذج تجارب ثرية، فكرا ومنهجا، ورغبة في تحقيق الأهداف .. تراهم أمامك وبين ناظريك، وفي دواخلهم حزم من الأفكار، تهيأت لهم الرغبة الأكيدة، في التفاعل مع مستقبل الأيام، يرسمون خُطاهم بثبات، ويختزنون مجموعة من الرؤى، يتطلعون لتحقيقها، وإن طال بها الزمن، ولكنها حقائق وإن بدت مبكرة .. ديدنهم الصمت بعيدا عن حب الظهور، تركوا الحديث للزمن والتاريخ ، وهي بلا شك جهود تذكر وتشكر، ترددها مجالس المجتمع بكل أطيافه، يدركون إنجازات تلك النماذج، في طريقها لقطاف ثمارها، وما أجمل القطاف حين تتوج بالعلم، والرغبة في الطموح، في ثنائية تتجاوز الأبعاد الزمانية والمكانية.
وأنا اليوم أمام نموذج من رواد التربية والتعليم، أتهيب الكتابة عنه اكبارا واعتزازا بتلك الروح وفضائل الأخلاق التي يتمتع بها، ومهما جاز لي أن أطلق عليه الكثير من الألقاب، وإن بلغ جهدي مبلغه، فيظل الرجل في مقام الكبار، لهذا تواريت عنه سنوات العمر، وفي محطات حياتية تعددت مناشطها وأماكنها، بين ثول القرية، والمدينة الحلم فيما بعد، بعد أن احتضنت على أجمل شواطئها، جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، وقبلها كانت أهم ميناء تجاري، على ساحل البحر الأحمر، ومنها تمتد القوافل التجارية البرية ، المحملة بالبضائع إلى مكة المكرمة وجدة، وللعديد من القرى القريبة والبعيدة، لهذا اكتست بطابع مجتمعها، رقيا وحضارة وتعاملا، وهو ما يردده الكثير ممن ارتبط بها، وعاش ليكون واحدا من أبرز رجالها.
الرائد التربوي الأستاذ عبدالعليم بن بريك الزنبقي، الذي تفخر به الأجيال، وقاد صناعة الإبداع في أبنائه وطلابه، يحثهم على الجد والاجتهاد، تشرفت أن أكون أحد طلابه بالصف الأول الابتدائي، ولازلت أتواصل معه بين حين وآخر، مع اعترافي بالتقصير نحو تلك الشخصية التربوية، والهيبة مع سمو الأخلاق، ورقي التوجيه.. وليس سرا أنني ترددت كثيرا، في الكتابة عن سيرته العطرة، خوفا ومهابة أن لا أوفيه حقه، وأخيرا عزمت أن أمضي في طريقي، ببضاعة مجزاة مستعينا بالصديق الأستاذ سلطان بن عبدالعليم الزنبقي، أن يمدني بشيء مما يحتفظ به عن سيرة والده، لكنه أجابني معتذرا، بـأن والده ووالد الجميع يأبى الظهور، وأن كل ما قام به نحو الأجيال، التي تتلمذت على يديه، ووفقه الله لأدائها إنما هو واجب ديني ووطني.
اقتضته رسالته التربوية، التي انفرد بها عن غيره ..وهي حقيقة وليس تقليلا من شأن الآخرين، وليعذرني من يقرأ هذه السطور إن لم تكن ترتقي لمقام ذلك الرجل الحكيم، فحين يتأثر التلميذ بأستاذه، تلك هي احدى النعم، التي مَنَّ الله بها على عباده، فكم كانت الأيام الجميلة، التي تلقيت فيها تعليمي، في أولى محطاتي الحياتية، يشاركني جيل من الزملاء، لازلت أعتز بهم، وإن تباعدت بيننا وبين بعضهم المسافات .. ومن أجمل ما في حياة الرائد التربوي، أنه غرس في أبنائه وبناته وأحفاده وحفيداته، حُب الوطن وقيادته، والتفاني في العمل بإخلاص، ومنهم من وصل لأرقى سلالم المجد والعلم، بحصولهم على أعلى الدرجات العلمية، في التربية والطب، وغيرها من التخصصات، في خدمة الدين والمليك والوطن.