إنه الرجل الشهم الذي آثر طفلاً غريباً على سلامته البدنية، فقد رمى نفسه من أعلى سور في الحديقة وكسر ساقه لينقذ صغيراً كاد أن يسقط في بحيرة مائية وهو في غفلة عن أنظار والديه .
شاهدت هذا الحادث بأم عيني وأنا أتجول في أحد متنزهات مدينة الرياض، وشعرت حينها بالفخر والاعتزاز لوجود أمثال هؤلاء الذين يهبون لنجدة الملهوفين بدافع إنساني ويؤثرونهم على أنفسهم رغم انتفاء صلة القرابة بينهم .
هل يستوي الذين يضحون بأرواحهم ويستشهدون في ساحات الوغى والذين يلوذون بالفرار ولا يذودون عن حياض الأوطان ؟! هل يستوي الذين يزرعون في أبنائهم الفضيلة وبين هؤلاء الذين يتنكرون لأدنى قيمة ؟! بين الذين يجودون بالعطاء وبين الذين يترددون في دفع المستحقات ، بين الذين يكرسون جهدهم ووقتهم من أجل أن ينتعش غيرهم وبين من يوصد الباب على نفسه وعلى أفراد أسرته مردداً عبارات تمتلئ شحاً وأنانية مثل : (وأنا مالي ، خليه يولي ) !.
مشكلتنا أننا نسأل دائماً عن حقوقنا ولا نسأل عن واجباتنا .. نسأل ما الذي قدمه الآخرون لنا ، ولا نسأل ماذا قدمنا نحن للآخرين . ونحن حين نطلب من أطفالنا أن يشاركوا أصدقاءهم في ألعابهم ، ونشجعهم على التصدق بما جمعوه من نقود على المحتاجين فنحن ندربهم ومنذ نعومة أظافرهم على أولى خطوات العطاء ، وحين نحسن تعليمهم ونطور مهاراتهم فنحن نؤهلهم ليدخلوا معترك الحياة ويقدموا الأفضل لمجتمعهم .. وحين نتطوع لخدمة العجزة وكبار السن فنحن نحدث الفرق الحقيقي في حياة هذه الفئة العمرية .. وحين نتبرع بسخاء في أوقات الشدة والأزمات فنحن في واقع الأمر نزكي عن مالنا ونطهر أنفسنا من ثقل الاكتناز ، وحين نرى الأطباء مرابطين في ميدان المعارك ، فهم بعد الله بمثابة الترياق الشافي والبلسم المداوي ، وحين نجد الأم التي تلمِّ أبناءها في غياب الأب وتصعد بهم سلم النجاح فهذا هو العطاء الأكبر الذي يصون الأسرة وينمي المجتمع ، وحين نسمو على الخيانة رغم قدرتنا على فعلها فهذا هو قمة الوفاء ومنتهى العطاء ، وحين نكظم غيظنا عند الغضب فهذا أيضاً نوع من العطاء لأننا نتصرف بحكمة وندفع بالتي هي أحسن.
العطاء سمة الأبطال وصفة الشجعان , فاغرس بذور الحب بين الناس ، وتذكر أن كثيراً منهم لا ينتظرون عطاءك المادي بقدر ما يرضيهم عطاؤك المعنوي ، فكم نحن بحاجة إلى ضمة مواساة في لحظة حزن ، وإلى لمسة حانية في لحظة انكسار ، وإلى الدعاء في لحظة حرجة، وإلى مزيد من الاهتمام في لحظة خوف وارتياب. يقول الشاعر الحطيئة:
من يفعل الخير لا يُعدم جوازيه …
لا يذهب العُرف بين الله والناس