المدينة المنورة ـ محمد قاسم
احواش المدينة.. هذا المصطلح دائما ما يتكرر عند الحديث عن ماضي المدينة المنورة .. ويقصد بالحوش مجموعة من المنازل تحيط بساحة واسعة لها مدخل بباب يمكن التحكم بفتحه، أو غلقه؛ متى استدعت الحاجة، وقد اختفت هذه الأحواش حاليا، مع حراك التطور العمراني ودعم المشهد البصري في المدينة المنورة، وتنفيذ الطرق المؤدية إلى المسجد النبوي الشريف، وبرامج” أنسنة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم” فلم يتبق منها سوى ” حوش الراعي “.
وكان في كل حوش توجد باحة داخلية، يقوم سكانه، بعمل المناسبات بها؛ حيث كان سكان هذا الحوش مثل الأسرة الواحدة، فإذا دخل غريب إلى هذا الحوش انتبه إليه الأطفال، ونبهوه بأنه قد أخطأ الطريق، وقد كان سكان هذه الأحواش قديمًا يتناوبون على حراسة بوابة الحوش، وقفل بوابته في أوقات محددة؛ لتأمين الدخول والخروج.
أحمد عبد الحميد المعيرفي، أحد سكان حوش الجديد جنوبي المسجد النبوي الشريف، قال: عشت، وترعرعت في حوش الجديد، الذي كان يقع في شارع الجنائز، جوار حوش النورة، مقابل شارع السلام القديم، لافتًا إلى أن الحوش يتكون من برحة كبيرة، تحوطها البيوت من كل جانب، والحوش له باب للخروج والدخول، ويغلق مع حلول الليل.
وأضاف: إن حوش الجديد كان له بابان؛ أحدهما يخرجك على درب الجنائز، والآخر يطلق عليه” الباب الصغير” وهو يطل على شارع طرقه، ويقود إلى حوش المغربي، وحوش الفقيه، موضحا أن كل حوش كان به ” كباس ” لتزويد سكانه بالماء، وأذكر أن مناسبات الأعراس كانت تقام في برحة حوش الجديد.
ويتعاون السكان في إقامةة مناسبات الزواج، ويجلبون المفارش، وأدوات الطبخ، والقهوة، لافتا إلى أن الأحواش تمت إزالتها؛ من أجل “أنسنة المدينة المنورة” مع الحفاظ على المعالم القديمة.
طابع معماري خاص
من جهته، قال الكاتب والباحث التاريخي فؤاد المغامسي: يذكر المؤرخون؛ ومنهم الذهبي أن المدينة المنورة كانت عند هجرة الرسول، صلى الله عليه وسلم، إليها ” قرى متفرقة من بني النجار وبني سالم بن ساعدة، وبني الحارث بن الخزرج، وبني عمرو بن عوف، وذكر أن دار عمرو بن عوف في قباء، وأنه كان موضع بناء مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، قرية صغيرة لبني مالك بن النجار”. وبعد تكوّن العاصمة الإسلامية في المدينة المنورة، خطّ النبي، صلى الله عليه وسلم، نظامه العمراني المكوّن من المركز، وهو المسجد النبوي الشريف، وتحديد سوق المدينة، وكانت المدينة المنورة طيلة عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الثلاثة من بعده عاصمة الدولة الإسلامية، ويقيم فيها الخليفة، ويتولى شئونها بنفسه أثناء وجوده، أما في حالة السفر، فإنه ينيب عليها من يتولى شئونها، حتى نقل مقر الخلافة علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، إلى الكوفة؛ لظروف تلك الفترة. اكتسبت المدينة مكانة دينية بين الناس؛ لورود كثير من الأحاديث التي تُرغب الناس في السكنى فيها، وأيضاً لفضلها، فقد قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :” وَالْمَدِيْنَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُون” متفق عليه. لذلك حرص كثير من الزائرين للمدينة المنورة على مر التاريخ السكنى فيها، فأتى إليها الناس من كل أقطار الأرض؛ فكونوا نسيجا عمرانيا كان سببا، أن جعل لها طابعا معماريا خاصا، أثر على تقسيماتها الجغرافية وحيزها المكاني، وأيضاً، كما ذكر الأديب والناقد السعودي محمد الدبيسي (أن تعدد الإدارات السياسية، ومراحل الهجرة إليها، والتوطن بها من مختلف الأقطار الإسلامية؛ نتج عنه طابع بيئي متميز، صنع ذلك النسيج العمراني المعروف باسم ” الحوش ” . والمقصود بالحوش في المدينة المنورة، هو ذلك النمط المعماري الذي يحوي تجمعا سكانيا، وهو الأحوشة، وهذه الأحوشة سمة سكانية معمارية خاصة بأهل المدينة المنورة، وإن أول من ذكر اسم الحوش بالمدينة المنورة، صاحب كتاب ( وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى ) السيد السمهودي، الذي عاش في النصف الثاني من القرن التاسع الهجري، وأكثر من ذكرها بإسهاب وتفصيل، الكاتب على بن موسى الأفندي في رسالته، التي نشرت سنة 1303هـ.
وأصبح لفظ الحوش دارجا عند أهل المدينة، أو عند كل من زار المدينة من الرحالة؛ أمثال بروكهارت، وبيرتون، وروش، ومحمد صادق أفندي، واللواء إبراهيم رفعت باشا، وغيرهم الكثير.
وصف الأحواش
واستطرد الباحث المغامسي بقوله: أما وصف الأحواش، فهي مجموعة من المساكن تحيط بباحة مفتوحة، يمكن التحكم فيها عن طريق بوابة تفضي إلى فراغ مفتوح تحيط به المساكن من جميع الجهات، ويذكر أن جميع الأحوشة كانت تغلق مساء، إلى أذان الفجر وهذه العزلة في الحارة جعلت الترابط بين سكان الحوش الواحد قوية،
ومن جميل ما قرأت عن هذه الأحواش، ما قاله الأديب محمد الدبيسي: ” كانت الأحواش بمثابة الذراعين اللذين يحتضنان السكان فجمعت فيما بينهم، وأخضعت صغيرهم وكبيرهم لنظام اجتماعي وترفيهي معين، وعوّدتهم على التعاون واحترام الجار وإكرامه ومساعدته في الأفراح والأتراح، ووثقت العلاقة بين الصغار والكبار، منذ لحظة الولادة محمولاً بين الأذرع، وكبيراً ثم محمولاً على الأكتاف.
كانت الأحواش بمثابة الميادين والملاعب، التي يتشرب فيها الصغار عادات وأخلاق الكبار، ففي الحوش يقضي الطفل معظم وقته فيها؛ يلعب، وفيها ينمو ويكبر، وفيها يتعلم الأساسيات الأولية لحياة المجتمع المدني وعاداته وتقاليده.
أسماء الأحواش
وتابع المغامسي: كانت الأحواش، المكان الأساس الذي يمارس فيه السكان هواياتهم؛ أطفالاً وكباراً. فيها يلعب ويلهو ويروح عن نفسه مع أقرانه، ومن لم يكن كثير الحركة والحيوية والنشاط إذا ازدادت حركته في بيته -أوشيطنته في المصطلح المدني- كان النداء المعهود والمتفق عليه ” يا ولد ! اخرج روح العب في الحوش ” ) ما أجمل هذه الصورة الذي رسمها الأديب وهذه اللفتة الراقية عندما تحدث عن أهمية الحوش، وكيف أثر فيهم .
فقد ذكر علي بن موسى أفندي، عددا يقارب 25 حوشا في رسالته عام 1303هـ/1885م. أما محمد حسين زيدان فقد ذكر 31 حوشا، ولكن حسب المصادر التاريخية، ووفق ما جاء في هيئة المساحة المصرية ووفق ما ورد في الصكوك والوثائق فقد فاقت 70 حوشا؛ منها حوش الراعي، وكان اسمه حوش الردادي، وهو يقع في شارع العنبرية، وتبقى منه جزء بسيط حاليا، وهو آخر حوش يقع على نهاية شارع العنبرية من الجهة الغربية، ويفصله مبنى التكية المصرية عن شارع العنبرية، كما كان هناك حوش أبو جنب، وهو حوش صغير على شارع العنبرية، وهو من أحواش النسيج العمراني الجنوبي الغربي؛
كذلك حوش أبو ذراع، وكان من أكبر أحواش المدينة المنورة قديماً، ويقع في أعلى شارع باب العنبرية من جهة الغرب، وله باب واحد يصله بشارع باب العنبرية. إلى جانب حوش أبو جمر، وحوش مناعن، وحوش عميرة، والعنبرية، وحوش الجمال، وحوش الخازندار.
وأضاف بقوله: ظلت بعض هذه الأحواش إلى عهد قريب؛ حتى بدأت الحاجة لتوسعة الحرم النبوي الشريف في عام 1411هـ حيث أزيل جزء كبير من المنطقة، بما فيها الأحواش؛ لتوسعة المسجد النبوي الشريف.
الموروث الشعبي
وأضاف المغامسي، أن الحارة عبارة عن شارع رئيس داخل المدينة، تتفرع منه طرقات ثانوية، وأزقة تصطف على جانبها المساكن، والحارة سطح غير متساوي الأضلاع، وعادة يكون لها مدخل واحد وأغلب شوارعها تكون غير نافذة؛ حيث توصل إلى الأحوشة، وما تحتوي عليه من شقق.
يكاد لا يخلو بيت من وجود ” قن ” أو ” خن ” أمامه، وهو المكان المخصص للدجاج والأغنام، كما كانت بعض الأحوشة تشتمل على ميضة عامة، وسبيل يشرب منه الجميع، ورغم وجود الأغنام والحيوانات المختلفة داخل الأحوشة؛ إلا أنه عرف عن سكان تلك الأحوشة اهتمامهم بنظافة الحوش والعناية به.
أنسنة المدينة المنورة
يهدف برنامج “أنسنة المدينة المنورة” إلى تحسين عدد من المواقع والأحياء، بما يؤهلها لأن تكون صديقة للإنسان والبيئة ضمن المسارات الرئيسة التي ارتكزت عليها رؤية رئيس هيئة تطوير منطقة المدينة المنورة، التي تؤكد تحسين كافة الأوضاع السكنية والخدمية في تلك الأحياء، دون الحاجة إلى إزالتها، وهو ما أسهم في إحداث نقلة نوعية حقيقية ذات بُعد إنساني في المدينة المنورة.
ونقل برنامج أنسنة المدينة المنورة، “حي المخاليف” من حي عشوائي يشوبه العديد من التشوهات البصرية والعمرانية إلى حي نموذجي وتحفة معمارية، تحمل الكثير من مدلولات التراث المديني، من خلال الإنجاز الهندسي الذي تحقق بأيدي أبناء المدينة المنورة.
ذلك إضافة إلى “حي تلعة الهبوب” الواقع جنوب شرق المدينة المنورة بجوار جبل أُحد، ويبعد قرابة ثلاثة كيلومترات عن المسجد النبوي الشريف، وتبلغ مساحته نحو 300 ألف متر مربع، ويحتضن 69 مبنى سكنيا.
وتعد أنسنة المدينة المنورة مبادرة لتحويل عدد من الأحياء غير المنظمة إلى بيئة عمرانية وحضارية منظمة، خلال سلسلة من المشروعات التطويرية للارتقاء بها، وبحياة قاطنيها، إضافة للمشاركة ببعض البرامج الاجتماعية والثقافية، التي تمثل جزءاً من العناصر الرئيسة لمكونات هذا المشروع الذي يعد تطبيقاً وترجمة على أرض الواقع لتوجيهات صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن سلمان، أمير منطقة المدينة المنورة، وتقوم به هيئة تطوير المدينة المنورة”.