عسفان – عبدالهادي المالكي
كثير من الناس يسمعون ويعبرون بمركز عسفان، ولكن لا يعرفون شيئا عن هذه البلدة الصغيرة، التي تقع وسط مجموعة من الحرات، التي تحيط بها من جميع الاتجاهات، ورغم صغرها غير أنها تحتضن معالم تاريخيه كثيرة منذ بعثة سيد العالمين نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، ولا زالت شاهدة حتى وقتنا هذا. وعسفان بلدة تقع شمال غرب مكة المكرمة بمسافة 80 كم، أدمجت أجزاء كبيرة منها بشمال شرق جدة، وهي نقطة التقاء ثلاث طرق مسفلتة: طريق مكة المدينة القديم، وطريق مكة المدينة المنورة السريع وطريق عسفان جدة. وتبعد عسفان بمسافة 40 كم عن مطار الملك عبد العزيز الدولي بجدة، وهي منهل من مناهل الطريق بين الجحفة ومكة المكرمة، وتسمى بالأبواء؛ لتبوء السيل بها، كما يكثر فيها النخيل. ويبلغ عدد سكانها أكثر 12 ألف نسمة. وقد مر بها من الرسل والأنبياء” صالح وهود وإبراهيم” عليهم السلام، وفيها شرعت صلاة الخوف في غزوة عسفان؛ حيث إن البلدة التاريخية تحتضن آثارا تاريخية عريقة منها قلعة عسفان أو قشلة عسفان، وتطل القلعة على الأودية الواقعة في تلك المنطقة، وهي مشرفة على الطريق المؤدي إلى المدينة المنورة والقادم من جدة.
(البلاد) حملت ملف تاريخ عسفان، والتقت بعدد من المهتمين بالتاريخ والآثار، الذين تحدثوا عن آليات تسليط الضوء على المعالم التاريخية الموجودة في عسفان؛ حيث أوضح البروفسور فهد عتيق المالكي رئيس فرع الجمعية التاريخية السعودية بمنطقة مكة المكرمة، أن الجمعية تعتزم إعداد خطط طموحة من خلالها سيتم تكثيف الزيارات الميدانية وحصر المعالم الأثرية والتاريخية بالمحافظات في منطقة مكة المكرمة عامة، والجموم وعسفان خاصة وإعداد الدراسات والبحوث التاريخية التي تخدم هذه الجوانب، لافتا إلى ثراء الجموم و عسفان بالآثار والمناطق التاريخية، التي تقتضي مكانتها وأهميتها دراستها بتوسع واستفاضة،
وأضاف: إن من أهم الآثار في عسفان” بئر دائرية واسعة الفوهة تقع في عسفان على الطريق بين مكة والمدينة على بعد 80 كم من مكة ، وقد اشتهرت بعذوبة مائها وغزارتها، ويقال: إن الرسول، صلى الله عليه وسلم، مر بعسفان ، وهو في طريقه إلى مكة المكرمة في غزوة الفتح ، فنضبت آباره، فأشرف على هذه البئر، وتفل فيها، ومنذ ذلك الوقت لم ينضب ماؤها .
غزوات تاريخية
من جهته، بيّن عضو هيئة التدريس بقسم التاريخ في جامعة أم القرى الدكتور سعد بن موسى الموسى، أن كثيرا من الغزوات التاريخية اجتازت “ثنية غَزَال”الواقعة بين مجموعة من الحرات على بعد خمسة كيلومترات شمال عسفان.
وتشتهر عسفان -إحدى مراكز محافظة الجموم التابعة لمنطقة مكة المكرمة- بتعدد الأودية، وبحسب الدكتور الموسى، فإن منها ما ارتبط بأحداث كوادي “كُراع الغميم ” ، وجَاءَ ذكره في غزوة بني لحيان ، ووادي “الرجيع” ويُعرف بماء الوطية ، ووادي ” الصغو” ، ووادي ” فيدة ” ، ووادي ” الغولاء ” ويبلغ طوله نحو 45 كيلومتراً ويصب في البحر الأحمر.
وفي السياق نفسه، أوضح الإعلامي محمد إبراهيم الحربي، المهتم بعسفان وجغرافيتها، أنه يسعى للتعريف بالآثار والمعالم للزوار؛ سواء كانوا من داخل منطقة مكة المكرمة، أو من مناطق أخرى، لافتا إلى أن الموقع الجغرافي لـ ” عسفان ” بين مكة المكرمة والمدينة المنورة رسخ حضورها على صفحات التاريخ، التي تروى شذرات عطره من أحداث السيرة النبوية، وملتقى على امتداد الدرب بين الشام واليمن فعُرفت باستراحة المسافرين.
وأضاف أن موضع عسفان يقع شمال مكة المكرمة بـ 80 كيلو متراً بين جبال السروات وسهل تهامة الحجاز، وعلى أهم طرق الحج ،ومن الشواهد التاريخية بالمركز ” قلعة عسفان ” التي شيدت بالحجارة الصخرية فوق جبل بهدف حماية القوافل والحجاج، فساعدت آنذاك في نشاط الحركة التجارية وتبادل المنافع، خاصة أن عسفان تشتهر بمنتجاتها الزراعية والحيوانية والصناعات التقليدية.
واستطرد بقوله: “من الآثار الموجودة في عسفان؛ القلعة، التي شيدت من أحجار الحرات الصخرية، التي جلبت من مناطق جبلية مجاورة، حيث تمتاز أغلب المنطقة بنوعية جيدة من صخور البازلت، التي تأتي فوق تلال الكثبان المرتفعة المتاخمة للحرة الشرقية الموجودة في السهل الساحلي، الذي يفصل بين الحرتين الشرقية والغربية، ووادي الحمران الذي يقع شمال غرب القلعة. حیث اكتُشف أن الأحجار الموجودة في القلعة تختلف عن أحجار الجبال الذي بنيت عليه على هيئة مربع، وفيها أربعة أبراج على الزوايا، وبرجان إضافيان على كل جدار.
قلعة تاريخية
كانت القلعة في الأساس توفر الحماية لطرق القوافل القريبة التي تمر بالمنطقة، وقوافل الحجاج التي تتجه من جدة إلى المدينة عن طريق الهجرة النبوية.
ما تزال بعض الجدران والأبراج في القلعة بحالة جيدة نسبيًا، ولكن يبدو أن جزءا من التلة التي تقوم عليها القلعة قد أزيل بفعل أعمال البناء في الطريق المجاور لها، حيث أصبحت القلعة الآن على حافة التلة، ولا تُعد تجربة الصعود إلى القلعة عبر شبكة الطرق بنفس القيمة التي كانت تتمتع بها في الزمن العثماني، حيث صمدت القلعة قرونا ولكن عند إنشاء طريق الهجرة السريع تم قَص جزء منها من جهتين شرقاً وغرباً مما أدى إلى تساقط أجزاء من أعمدة القلعة، وهي مدخل الحجرات إلا أنه في عام 2015م التفتت بلدية عسفان للقلعة التاريخية وقامت بإعادة بناء ما سقط من الأعمدة وترميمها كما أنشأت درجا للصعود لها، بالإضافة إلى بناء مدخل النزول للقلعة للوصول إلى الحجرات في الأسفل، التي يقال: إنها كانت سجنا للشاعر الفرزدق .
السوق القديم
هو أقدم سوق تاريخي بعسفان، وكانت تمر به قوافل الحجيج بين مكة والمدينة، إلا أن بدأ في الاندثار ولم يتبق منه إلا بعض أطلاله التي تؤكد أصالته، وتشهد على عراقة ماضيه، وتعد عسفان سوقا عامرة منذ العصر الجاهلي حتى اليوم، وشهد حراكًا تجاريًا كبيرًا، ولا تزال عسفان بسوقها تشكل مركزا لتقديم الخدمات للحجاج والمسافرين والعابرين ولسكان المحافظات والمراكز المجاورة لها؛ بما توفره محلاتها من سلع بالجملة والقطاعي، وقد ساعد موقع عسفان المحوري المتوسط لتكون كذلك، بالإضافة إلى بعض المعالم الأخرى في عسفان؛ مثل المكان الذي نزلت به صلاة الخوف، وغدير الأشطاط التاريخي، وثنية غزال وموقع أحداث غزوة بني لحيان، وموقع استراحة حجة الوداع، وموقع صلح الحديبية، ودرب الأنبياء وطريق الهجرة .
بئر عثمان
من المعالم الأخرى التاريخية بعسفان، بئر عثمان ونبع الوطية، الذي يخرج منه الماء في منطقة صحراوية على مدار العام، دون انقطاع ؛حيث إن ماءها لا ينضب، ولا يزيد ولا ينقص ! حتى وإن زاد فإنه يزيد قليلا عندما يتكرر نزول المطر. ولكن هذه الزيادة محدودة الزمن وسرعان ما تعود إلى حالتها الطبيعية . فالماء فيها لايزيد ارتفاعه عن 10سم .
وعندما نتمعن في تضاريس المنطقة، نجد مايدعونا للحيرة؛ حيث إن هذا النبع موجود في منطقة صخرية، ويقع تحت أحد جبال القرية، أسفل حرة الجابرية، جهة الشمال الغربي لها والنبع ليس عميقا.
مخزون تاريخي وتراثي
يجهل الكثير من المواطنين ما تزخر به المملكة من مواقع تاريخية وحضارات قديمة؛ إذ تقتضي الضرورة تعريف المواطنين وزوار المملكة من حجيج ومعتمرين وسياح بهذا المخزون التاريخي؛ لتكون عامل جذب للمواطنين في الداخل، وتستقطب السياح المهتمين بالآثار؛ خاصة الإسلامية منها.
وفي عسفان تبين خلال جولة (البلاد) مع مجموعة من الإعلاميين والمهتمين بالتراث والتاريخ، الإهمال الواضح على تلك المواقع التاريخية العريقة من ناحية الترميم، أو من ناحية إعلانه للناس عبر الوسائل المسموعة والمقروءة والمرئية وتنظيم الرحلات لها من قبل هيئة السياحة، خاصة بعد أن تم فتح المجال للتأشيرات السياحية .