العلا ـ البلاد
وأنت في محافظة العلا تستهويك المعالم الأثرية، فتنطلق بين وهادها وجبالها لاستشراف التاريخ ومعالمه المتجذرة في عمق الحضارة، فتتجسد أمامك معالم حضارة النبط وكل تفاصيل الماضي من محطات طريق البخور إلى البيوت المنحوتة في الجبال، وأسرار تنام في عمق التاريخ، ومن خلال شتاء طنطورة في نسخته الثانية، فتحت منطقة العلا صفحات التاريخ من جديد لتبهر زوارها بما تمتلك المنطقة من قيمة تاريخية، فما أن تبدي لك المدينة معالمها الثرية بالتاريخ إلا وتكتشف بين كثبانها وجلاميدها روائع طبيعية فريدة في شكلها وتنوعها، قلما تشاهدها في المواقع السياحية العالمية.
حيث تستمر فعاليات مهرجان شتاء طنطورة حتى 7 مارس القادم وسط حضور مكثف من قبل عشاق التاريخ والسمفونيات والمعالم الأثرية التي تعود إلى حقب مختلفة موغلة في القدم. ولما كانت العلا في سالف العصر جسراً حضارياً بين الشرق والغرب بوصفها إحدى محطات طريق البخور، وملتقى للحوار الثقافي والحضاري سعت الهيئة الملكية للعلا لتجسيد قيم التنوع بإبرازها من خلال المهرجان العالمي (شتاء طنطورة) الذي تتواصل فعالياته حاليا وهو يسلط الضوء على الفنون والثقافة والتاريخ والتراث في محافظة العلا، حيث يتوافد آلاف السياح من مختلف أنحاء العالم في نهاية كل أسبوع للتمتع والاستمتاع بالعروض الفنية والثقافة والمغامرات، ودعمت ذلك الخطوات التي انتهجتها المملكة مؤخرا لدعم السياحة واستقبال السياح عالمياً، ومنها إطلاق التأشيرة السياحية الإلكترونية.
تميز نوعي
وعلى امتداد مساحة العلا اكتسبت تميزاً نوعياً في انتشار الآثار والمواقع التاريخية والبساتين والقرى الأثرية، وتوزعت وفق مخطط هندسي طبيعي أذهل من يزورها برغم حداثة برنامج العمل السياحي الذي تقوده الهيئة الملكية للعلا.
واستطاعت المملكة أن تكشف عن كنوز العلا للزوار والسياح عبر برامج تسويقية مختلفة عززت من حضوره على مختلف الأصعدة شملت بذلك المؤتمرات والملتقيات والمنتديات العالمية لتصبح العلاء اليوم أحد أهم الوجهات العالمية المسجلة بمنظمة اليونسكو.
لم يقف الأمر عند الجانب التاريخي لعاصمة الأنباط الثانية قديماً بل باتت العلا تسجل رقماً قياسياً في حماية معالمها البيئية وتطويرها عبر مبادرة حماية النمور العربية، التي أطلقتها الهيئة الملكية لمحافظة العلا، ومشاريع عدة، تعمل على دعم الحفاظ على هذه الأنواع المهددة بالانقراض، بما في ذلك برنامج مكثف للتربية وإعادة الإكثار، إضافة إلى إنشاء الصندوق العالمي لحماية النمر العربي كمنصة فعالة للعديد من المبادرات المستقبلية.
وعملت الهيئة الملكية لمحافظة العلاء منذ تأسيسها على دراسة شاملة لتأهيل وتطوير منطقة العلا وآثارها بما يحقق للسائح والزائر أرقى الخدمات إلى جانب الحفاظ على ما تكتنزه المدينة من جمال في الطبيعة وبدون أي تغيير يمكن أن يؤثر على الطبيعة.
مطاعم عالمية
وجلبت “الهيئة” لمحافظة العلا عدداً من المطاعم والنزل العالمية بين أوديتها وجبالها صممت وفق أحدث المقاييس الهندسية مع الحفاظ على أدق تفاصيل الطبيعة الخلابة إلى جانب تطوير وتدريب أبناء وبنات المحافظة للقيام بمهام الخدمات والإرشاد السياحي شملت الطبخ والفندقة والسياحة في أكبر وأهم المعاهد العالمية عبر برامج ابتعاث بادرت بها الهيئة، خصوصا الابتعاث إلى باريس.
وأكدت الطالبة أمجاد بنت تركي إحدى فتيات محافظة العلا المشمولة ببرنامج الابتعاث في تعلم اللغة الفرنسية أهمية اللغات في التعامل مع السياح إضافة إلى دراسة السياحة وتعليمها لأبناء محافظة العلاء الأمر الذي يسهم في تعزيز السياحة الداخلية والتعرف على ثقافات عالمية متنوعة في الوقت الذي تشهد فيه مدائن صالح والمواقع السياحية في العلا إقبالاً سياحياً عالمياً.
استقطاب السياح
وتتجه العلا إلى أن تستقطب أكثر من مليوني زائر بحلول عام 2035، عبر تطوير محافظة العلا لوجهة تراثية وثقافية وسياحية عالمية استثنائية، وتعزيز قدرة المطار على استقبال الرحلات الدولية المباشرة من مختلف الوجهات الإقليمية والدولية إليها.
كما تعمل الهيئة على تطوير ثلاثة منتجعات سياحية في العلا تحمل علامة ” أمان ” ستُبنى بحلول عام 2023 بما يعزز مستوى الخدمات السياحية في المحافظة.
تلك الجهود المؤسسية يقابلها تجانس في غايتها من أهالي المنطقة وهو ما عبر عنه ابن العلا “حامد البلوي” عن سعادته الغامرة بما تحظى به العلا من رعاية واهتمام على المستوى الوطني توجت باستحداث الهيئة الملكية للعلا للنهوض بمقوماتها الطبيعية والتاريخية، وقال تاريخ العلا يجب أن يكون مفتوحاً أمام العالم.
وقد استلهمت العلا من موقعها وتاريخها وجمال الطبيعة أهمية في خارطة السياحة المحلية فكانت حاضرة ضمن مستهدفات رؤية 2030 لا سيما أن المكان وجهة للسياح من مختلف أنحاء العالم بالنظر إلى إرثه بالمتجذر في عمق التاريخ.
ومن أبرز أنشطة شتاء طنطورة فعالية “عانق السماء” وتتيح تجربة الطائرات القديمة ذات القمرات المفتوحة من طراز “هارفارد أدفانسد” التي تعود إلى مرحلة الحرب العالمية الثانية، وأخرى من طراز “بوينغ ستيرمان” وتعود صناعتها إلى عام 1930م، للتعرف على ما خلفته الحضارة الإنسانية في العلاء ومنها “صخرة الفيل”، و”الحجر” و”المدينة القديمة “.
أما فعالية “اكتشف الماضي” فتأتي بعد الاستمتاع برحلة الطيران وهي رحلة إلى الماضي من خلال زيارة أحد المواقع التراثية والتعرف على روعة معالم “الحجر” أو “دادان” أو “جبل العكمة” ، وقضاء وقت في حضرة تاريخ يعود إلى 2000 عام.
ويقود هذه الجولات السياحية المتاحة لجميع الأعمار بمن فيهم الأطفال، مرشدون ورواة للقصص عبر استضافة مجموعات من الزوار وتزويدهم بالمعلومات عن تلك الآثار.
السوق التراثي
ووفقاً لتجربة محلية للزوار فعند زيارة سوق وادي القرى التراثي يمكن التعرف على قلب العلا الحقيقي وأهلها وأشهر منتجاتهم التقليدية، كذلك متابعة الحرفيين الذين يستخدمون التقنيات القديمة لصناعة التَذْكَارات وتذوق بعض من المأكولات المحلية اللذيذة.
وأعدت فعالية “تتبع المسار” للاستمتاع بجولة بواسطة الدراجة الهوائية حول سكة الحديد الحجازية، كما أن لمحبي الطبيعة فرصة متابعة مسار النمر العربي. وتشمل كذلك القيام بجولات في السيارات ذات الدفع الرباعي وجولات المشي في الطبيعة للتمتع بالمعالم الجيولوجية المتميزة للعلا، في حين يمكن للزوار اختيار الإقامة مع تتبع مسار الكرفانات المتنقلة الذي حددته عبر السنين آثار الخيول أو العربات القديمة لتعبر وسط الطبيعية الخلابة في العلا.
كما أن “مسار الفارس المفقود” يجمع بين متعة المشي في الطبيعة وركوب الجمال والقيام بجولات من خلال السيارات ذات الدفع الرباعي، وهو مناسب لعشاق المغامرة أيضاً. وتعد مسارات العلا مفتوحة للزوار من عمر 17 عاماً.
ومن أهم الأنشطة في شتاء طنطورة “التجارب الفنية ” الخارجية في الهواء الطلق، والزوار على موعد للتعرف على “غرفة مرايا” ذلك العمل الفني الذي طاف العالم لليابانية يايوي كوساما، ويحط رحاله في العلا وهو عبارة عن غرفة تتميز بأنها لا تنتهي.
إبداعات الطبخ
يذكر أن الهيئة الملكية لمحافظة العلا سبق وأن ابتعثت عددا من الطلاب والطالبات لدراسة الفندقة والطبخ في باريس، وقد استطاعت هذه الكوادر إثبات نفسها وأن تبدع في وصفات الطبخ. وقبل فترة شارك الطلاب والطالبات المبتعثون من الهيئة الملكية لمحافظة العلا لدراسة فنون الطهي بمدرسة فيراندي- باريس في تقديم أصناف منوعة من إنتاجهم إلى المدعوين في حفل افتتاح معرض “العلا واحة العجائب في الجزيرة العربية”، الذي أقيم مؤخرا في معهد العالم العربي في العاصمة الفرنسية باريس.
وحرصت الهيئة الملكية لمحافظة العلا أن يشارك أبناؤها وبناتها في هذا الحدث لاستعراض هوية المحافظة وثقافتها، إضافةً إلى إشباع حاسة التذوق لدى الزوار بما يعكس جمال العلا وثرائها الطبيعي إلى جانب الإشباع البصري والسمعي بمحتويات المعرض. واختار الطلاب والطالبات تقديم أصناف مختلفة من الحلوى، مركزين على ما تشتهر به العلا وأرضها الخصبة في مجال إنتاج الفواكه الحمضية.واستحسن المدعوون ما قدمه الطلاب والطالبات ونال إعجابهم، مشيدين بهذا التكامل في المعرض حتى في مجال الطهي وتقديمه بأيادٍ وطنية سعودية.
وادي القرى موطن
الحضارات المتعاقبة
وتتميز بيئة محافظة العلا بثرائها الطبيعي؛ حيث تحتضن وادي القرى، وهو وادٍ خصب يجري في منتصف العلا، ويمتد من الشَمال إلى الجنوب تحيطه الجبال والسهول. وكان الوادي موطنًا للعديد من الحضارات المتعاقبة، والتي مازالت تمتلك لها شواهد أثرية على امتداد الوادي، ومن بينها مملكة «دادان»، الذي استوطنه اللحيانيون والأنباط.
لعبت العلا دورها عبر التاريخ كملتقى للحضارات والثقافات، وكانت محطة مهمة على طرق التجارة العالمية بدايةً من القرن الأول قبل الميلاد؛ وتعتبر الطنطورة بشكلها الهرمي، مزولة شمسية مهمة يعتمد عليها أهالي المنطقة؛ للتعرف على دخول موسم الزراعة، وكذلك تغير فصول السنة، وخصوصًا مربعانية فصل الشتاء؛ حيث أقصر يوم وأطول ليلة في السنة. ترتفع الطنطورة على أسطح أحد الأبنية وسط بلدة العلا الأثرية كجزء أصيل من البناء، كما كان أهالي المدينة يعتمدون عليها قبل مئات السنين للتعرف على الوقت خلال اليوم.
اكتسبت طنطورة على مر العصور أهميتها كنقطة يجتمع عندها أهالي البلدة؛ للاحتفال بموسم الزراعة وبدخول فصل الشتاء، والذي يعود معه مجددًا النشاط في الحقول، وهكذا أصبح الحدث تقليدًا سنويًا، يجمع أهل المدينة للاحتفال بعودتهم إلى حقولهم، وفرصة للابتهاج وتبادل التهاني.