حصل السير ألكساندر فليمنغ على جائزة نوبل في الطب في عام ١٩٤٥ م ؛ لاكتشافه (البنسلين) كأول مضاد حيوي يُعرف في التاريخ . وعند إلقائه لكلمته في مراسم تسليم الجائزة ، أبدى فليمنغ قلقه إزاء احتمال أن تصبح البكتيريا -بمرور الوقت- مقاومةً للمضادات الحيوية، على نحوٍ يؤدي إلى المزيد من الإصابة بالعدوى البكتيرية المستعصية التي لا يمكن علاجها.
ولقد كان فليمنغ مصيبا في رؤيته الاستشرافية للمستقبل، ذلك أن مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية أضحت واحدة من أكبر المخاطر التي تهدد الصحة العالمية ، والأمن الغذائي ، والتنمية البشرية ؛ فوفقا للتقرير الصادر من مشروع مراجعة مقاومة المضادات الحيوية الذي تتبناه الحكومة البريطانية ، يُتوقع أن تقضي البكتريا المقاومة للمضادات الحيوية – أو ما تعرف بالبكتيريا الخارقة – على حياة ١٠ ملايين شخص حول العالم كمعدل سنوي ، بحلول عام ٢٠٥٠ م.
وعلى الرغم من رداءة المشهد الذي يصوره هذا الرقم ؛ إلا أن قناديل الأمل مازالت مشتعلةً للطامحين في التغلب على هذه المعضلة التي تبدو معقدة ومتشعبة نوعا ما ، وهذا ممكن متى ما وجدت رؤية واضحة لإدارة هذه المعركة الحتمية ضد البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية. ولتحقيق هذه الرؤية، ينبغي بناء جسر للعبور إليها ، من خلال تنظيم حملات مستدامة و منسقة ، تحاول تقديم حلول فعالة على مختلف الأصعدة ذات العلاقة ، والتي تشمل – في جملة ما تشمل- تحديث الممارسات المهنية ، ودعم البحث العلمي ، و ايجاد حلول ملائمة اقتصاديا ، واستصدار تشريعات صحية فعالة.
ولكي تنجح هذه الحملات ، عليها أن تتخذ المبادرة صبغةً لها ، وأن تبتعد من أن تكون مجرد ردود أفعال لتقديم حلولٍ آنيةٍ مُسَكِّنة ، ولعل أبرز ما يجب المبادرة فيه لتحقيق تقدم عالمي ملحوظ لتجاوز هذه المشكلة ، هو ابتكار آليات لمشاركة البيانات وأفضل الممارسات المبنية على البراهين ، عبر اختيار قنوات تقنية مناسبة للرصد والتشخيص، على نحو يعزز من تنسيق الجهود ، ويحد من ازدواجيتها.
ومن المهم أيضا ،أن تبادر هذه الحملات لتعزيز التواصل الإعلامي الفعال ، الذي يساهم في رفع مستوى الوعي بهذه المشكلة لدى عامة الناس بمختلف أجناسهم وثقافاتهم ، على نحو يؤثر في نظرتهم لتعاطي المضادات الحيوية واستخدامها بشكل صحيح ، و هذا أمر يمكن للمنظمات والهيئات الدولية ، كمنظمة الصحة العالمية وهيئة الأمم المتحدة ، القيام به على النحو المنشود ، شريطة توفر تعاون واسع من مختلف الدول والمنظمات الحكومية.
و لا غنى لهذه الحملات عن الاستثمار في البحث العلمي ؛ فلابد من ضخ المزيد من المال لتطوير طرائق علاجية جديدة للتغلب على البكتيريا الخارقة ، ومن المعلوم أن طرح مضاد حيوي جديد للسوق يمكن أن يستغرق ما بين عشرة الى خمس عشرة سنة في رحلة طويلة ، بدءاً من الأبحاث الأساسية، ومرورا بالتجارب السريرية ذات الكلفة المادية العالية التي قد تصل للمليار دولار تقريبا لإنتاج مضاد حيوي واحد مع عائد ربحي محدود نسبيا ، مقارنة بأرباح أدوية الأمراض المزمنة ، كأمراض السكري والضغط وخلافهما ، وهذا ما يفسر ضآلة البحث العلمي في مجال انتاج المضادات الحيوية مقارنة بأبحاث ابتكار أدوية الأمراض المزمنة، حيث يقدر عدد المضادات الحيوية الجديدة الخاضعة للتجارب السريرية في هذا الوقت باثني وأربعين مضادا فقط ، مقارنة بآلاف العقاقير التي تستهدف علاج الأمراض المزمنة الموجودة على خطوط الإنتاج حاليا ، مما يعني ضرورة استحداث محفزات اقتصادية وقنوات تمويلية للجهود البحثية الجادة.
ومن نافلة القول ، أن الوقاية خير من العلاج ، وتطبيق هذا المبدأ- والذي يمثل جوهر الصحة العامة – في معركة البشرية ضد البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية ، يعني ببساطة أن يتم وصف المضادات الحيوية عند الضرورة فقط – خصوصا في العيادات الخاصة – ؛ وهو يعني – أيضاً- أن يمنع الاستخدام العبثي لهذه المضادات من قبل المزارعين وصناع الأغذية بهدف زيادة نمو الحيوانات والدواجن ومقاومتها للأمراض ؛كما أنه يعني توجيه المزيد من الأموال والموارد إلى برامج مكافحة العدوى في المستشفيات ، والتي غالباً ما تكون بنود ميزانياتها – للأسف- منخفضة الأولوية.
ومن الضروري كذلك ، أن تعنى دول العالم بقدرات مختبراتها الطبية على تحديد وتشخيص أنواع البكتيريا المسببة للأمراض المتنوعة بدقة ، مع التقييم المستمر لأداء هذه المختبرات وتطويرها بشكل دائم يواكب التحديثات التي قد تطرأ من التقدم المتسارع للتقنية الطبية ، مما يعزز من قدرة الأطباء على وصف المضادات الحيوية المناسبة عند الحاجة ، وتجنب الاستخدام غير الرشيد لها.
وباستقراء التطور الزمني المتفاقم لهذه المشكلة ؛ فإنه يمكن القول ، وبلا أدنى شك ، بأن غياب العمل التكاملي الدؤوب والمكثف على الصعيد الدولي ، سيكون له نتائج وخيمة ، تجعل من العدوى البسيطة التي يمكن علاجها بسهولة بالمضادات الحيوية في الماضي ، قاتلةً فتاكة في المستقبل ، وستكون عندها تدابير الرعاية الصحية الوقائية في العالم ، مهما بلغت متانتها ، أضعف من أن تعزز قدرة البشرية على كسب حربها ضد البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية.
drhalmalki@gmail.com