انقرة ــ وكالات
مثلت نتائج الانتخابات البلدية في تركيا اكبر الصدمات للرئيس رجب طيب أردوغان، فعلى الرغم من حلول حزبه في المرتبة الأولى، فقد خسر العدالة والتنمية” عددا من المعاقل المهمة، في العاصمة أنقرة وإسطنبول التي يعيش فيها خمس سكان تركيا، اذ يبدو أن نجم سلطان العثمانيين بنسخته العصرية قد بدأ بالأفول بعد أن أتت رياح الانتخابات بما لا تشتهي سفنه
وعد مراقبون هذه الانتكاسة الأخيرة بمثابة استفتاء ليس في صالح العدالة والتنمية بين حجم شعبية الحزب الممسك بزمام أمور البلاد منذ سنوات عدة، مؤكدين أنها تأتي في وقت تم فيه إقرار الدستور الجديد بنسبة ضعيفة مثلت نحو نصف سكان البلاد.
وذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية أن النتائج لا تعني أن أردوغان سيغير سلوكه، الذي يتضمن علاقات أكثر تقاربًا مع روسيا وبرودة مع الناتو، لكنها أظهرت أن لديه نقاط ضعف، حيث قالت أصلي أيدينتاسباس، الزميلة في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية “إنها كارثة بالنسبة له. نعلم الآن أنه يقهر”.
وعلى الرغم من الطابع المحلي للانتخابات البلدية التي يختار فيها المواطنون الأتراك، من حيث المبدأ، من يدير الخدمات في المدن التي يسكنونها، فإن لهذه المحطة الانتخابية أهمية كبرى، بل إن هناك من اعتبرها بمثابة استفتاء حول شعبية حزب العدالة والتنمية الذي يمسك بزمام البلاد منذ سنوات طويلة.
وتكتسب هذه الانتخابات أهميتها من كونها أول اقتراع في ضوء الدستور الجديد الذي جرى عرضه لاستفتاء شعبي في أبريل 2017 وأيده الأتراك حينها، بنسبة ضئيلة لم تتجاوز 51.41 بالمئة.
واستطاع أردوغان وقتها أن يحرز انتصارات سياسية كبيرة قبل أن يبدأ مسار الانحدار، خلال السنوات الأخيرة، ففي انتخابات البرلمان لعام 2002، حصل حزبه على أغلبية المقاعد بسهولة (363 من أصل 550) أما حزب الشعب الجمهوري فلم يفز وقتها سوى بـ178 مقعدا.
وشكل هذا الفوز مرحلة فاصلة في تاريخ الحزب، فابتداء من 2002، انتهت عهد الحكومات الائتلافية في تركيا، وتمكن العدالة والتنمية، من إيجاد هامش واسع لتولي السلطة واتخاذ القرارات التي انعكست إيجابا على قاعدة الأنصار.
وفي الوقت الذي تفقد فيه الأحزاب عادة وهجها حين تمكث أعواما في السلطة، خرق أردوغان هذه القاعدة، ففي انتخابات البرلمان لـ2007، حافظ حزب العدالة والتنمية على الأغلبية بشكل مريح بعدما نال 341 مقعدا من أصل 550.
وحتى في 2011، أي بعد نحو عقد على انتصاره، منح الناخبون الأتراك أغلبية أخرى لحزب العدالة والتنمية، فحصل على 327 مقعدا في الوقت الذي لا يحتاج فيه تشكيل الحكومة سوى 276 مقعدا.
ولم يقتصر نجاح العدالة والتنمية على البرلمان، بل أمسك الحزب بزمام الأمور في أغلب المدن الكبرى للبلاد مثل العاصمة أنقرة وإسطنبول.
وفي انتخابات تركيا البلدية سنة 2004، حصل حزب العدالة والتنمية على 41.67 في المئة من الأصوات، متفوقا بفارق كبير على الأحزاب الأخرى، لكن التراجع في البلديات بدأ منذ 2009.
وشكل استفتاء 2017 الذي نقل نظام البلاد السياسي من برلماني إلى رئاسي، ناقوس خطر مبكرا للرئيس التركي، إذ صوت أغلب ناخبي إسطنبول، وقتها، ضد مقترح أردوغان الذي ولد في المدينة التاريخية سنة 1954، وشغل منصب عمدتها بين سنتي 1994 و1998.
وإذا كان أردوغان، وهو ابن حي قاسم باشا، قد فوجئ بتراجعه في المدينة التي ترعرع فيها وشهدت على بروزه سياسيا، فلأن عددا كبيرا من الأتراك أبدوا خشية من نزوع الرجل إلى التحول لـ”سلطان” ينفرد بالقرارات ويزيح حتى الأصوات التي توصف بالمعتدلة داخل حزبه، مثل أحمد داوود أوغلو الذي تولى منصبي وزير الخارجية ورئيس الوزراء.
وفي الانتخابات البرلمانية يونيو 2015، فشل حزب العدالة والتنمية الحاكم في الحصول على أغلبية، ولم يستطع أن يقيم تحالفات مع أحزاب أخرى، مما اضطره إلى إعلان انتخابات مبكرة في شهر نوفمبر من العام نفسه.
وكانت الانتخابات البلدية الأخيرة، قد جرت وسط أزمة اقتصادية كبيرة في تركيا، جراء زيادة معدلي البطالة والتضخم واستمرار تداعيات هبوط الليرة إلى مستوى غير مسبوق أمام الدولار، وبما أن أردوغان يعزو تصدر حزبه للمشهد السياسي إلى الإنجازات الاقتصادية، فإن تبخر هذه الأخيرة كان إيذانا بانفضاض المؤيدين من حوله.
وفي أزمة الليرة، رأى متابعون أن سياسات أردوغان زادت الطين بلة، ففي الوقت الذي كان الخبراء ينصحون الرئيس باحترام الاستقلالية النقدية للبنك المركزي، أصر “السلطان” على معارضته لزيادة أسعار الفائدة، وهو ما زاد من التضخم، وفي وقت لاحق، اضطر الرئيس التركي إلى التراجع عن هذا المبدأ لكن بعدما اندحرت الليرة إلى مستويات دنيا.
وفي المنحى نفسه، أدت سياسات أردوغان المتقلبة إلى توتر العلاقة مع واشنطن التي تجمعها شراكة تاريخية واستراتيجية بأنقرة، وأدى الاعتقال التركي للقس الأميركي أندرو برنسون، إلى فرض عقوبات على الاقتصاد التركي.
وتحت وطأة الضغط والوعيد الأميركي بمزيد من العقوبة، عاد أردوغان إلى طابعه البراغماتي مجددا، وأفرج القضاء عن القس، لكن هذه الخطوة جرت بعد تمنع كلف الليرة التركية خسائر فادحة، فعلى الرغم من تعافيها بشكل نسبي ظلت دون ما كانت عليه قبل الأزمة.
ولأن الوضع الاقتصادي لم يكن على ما يرام، خلال الحملة التي سبقت الانتخابات البلدية، ركز أردوغان على دغدغة العواطف القومية والدينية بدلا من تقديم برامج واضحة تبعث إشارات مطمئنة إلى الناخب التركي.
واستغل أردوغان حادث الهجوم الإرهابي على مسجدين في نيوزيلندا حتى يعزف على أوتار قاعدته المحافظة من الناخبين، وأصر على عرض فيديو مروع في الوقت الذي كانت منصات التقنية الكبرى تعمل جاهدة حتى تقوم بحذفه من الصفحات.
ولم يكتف أردوغان بالركوب على موجة الدماء البريئة التي سالت في نيوزيلندا، بل تعهد بأن يتحول متحف آيا صوفيا الديني إلى مسجد.
لكن خطاب اللعب على الوتر العاطفي لم يجد نفعا على الأرجح، فالمدينة الأكبر في تركيا اختارت أن تخرج من عباءة “السلطان” أملا في إيجاد حلول واقعية لكثير من المشكلات التي تحيط بها.
وكان رئيس الوفد الذي كلفه المجلس الأوروبي لمراقبة الانتخابات المحلية بتركيا أندريه داوسون، قد وجه انتقادات لحكومة أردوغان بشأن الحملات الانتخابية، وعدم حصول المرشحين كافة على الفرص نفسها من التغطية الإعلامية، مؤكدا أن الانتخابات لم تكن ديمقراطية.
ونقل الموقع الإلكتروني لصحيفة “جمهورييت” التركية عن بيان للمسؤول الأوروبي أصدره حول انطباعاتهم عن العملية الانتخابية في تركيا، أنهم كانوا 22 مراقبًا من 20 دولة، وأنهم عملوا خلال الانتخابات في 10 مجموعات مختلفة وُجدت للمراقبة في عديد من المدن المختلفة مثل: أنقرة، وإسطنبول، وإزمير، وديار بكر.
ولفت إلى وقوع بعض الأحداث التي ألقت بظلالها على العملية الانتخابية في عدد من الولايات التركية، معربا عن عدم اقتناعه بأن هذه الانتخابات كانت حرة ونزيهة بالشكل الذي يتناسب مع القيم الأوروبية.
وأشار إلى أنه وفقًا لنتائج الانتخابات، فإن هناك عديدا من الأحزاب السياسية قد حققت تقدمًا، معربا عن قلقه العميق إزاء ما تردد من أنباء وتصريحات حول وجود اتجاه حكومي لتعيين أوصياء على البلديات التي نجح برئاستها مرشحون من حزب الشعوب الديمقراطي الكردي في ولايات شرق وجنوب شرق البلاد ذات الأغلبية الكردية.
في غضون ذلك قرر حزب العدالة والتنمية الطعن في نتيجة الانتخابات المحلية في جميع أحياء إسطنبول التسعة والثلاثين، بعد أن أوضحت أحدث النتائج تقدم مرشح حزب المعارضة.
وأعلن مرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض أكرم إمام أوغلو ورئيس الوزراء السابق بن علي يلدريم مرشح حزب العدالة والتنمية المنافس، تقدم أوغلو في انتخابات رئاسة البلدية في اسطنبول بنحو 25 ألف صوت.
وقال حزب العدالة والتنمية، إنه سيستخدم حقه في الطعن على النتائج عند وقوع مخالفات في التصويت