لم أعد أتوقف، كما كنت سابقاً، عندما أجد بعضهم قد اختلف بشكل متعارض تماماً عن تقييمي لبعض الأعمال الإبداعية؛ ففي مراحل مبكرة من حياتنا نتوقف باستغراب منقطع النظير أمام من يدلون بآراء متباينة تماماً عن ما نعتقده يقيناً.
ولكن مع تأمل تلك الاختلافات وتفكيكها، نتعامل معها بشكل أكثر تسامحاً، فنسمح لصفاتنا الإنسانية في الظهور بتقبل الآخر المختلف معنا في صفاته وأشكال تلقيه للأشياء من حوله، وهذا ما كان في فهم المشاعر المختلفة التي تنشأ في الآخر -كما يحدث معنا- وتنمو بطبيعة الحال أثناء تفاعله كمتلق للنص أو اللوحة أو الموسيقى أو أي عمل آخر، حتى وصوله إلى أعلى درجات التعاطي مع الإبداع وقبوله.
فالحاسة الإنسانية التي تظهر أمام جمال أي عمل، ليست حاسة مجردة، بل هي حاسة يغلفها الكثير من العمليات الشعورية والمعرفية التي تتفاعل كثيراً قبل إدراك الجمال؛ هذه العمليات هي سبب اختلاف الأذواق الطبيعية الذي ينشأ بين الأشخاص تجاه العمل. هذا الغلاف الذي يلف أي حاسة تذوق لدينا، وحسب رأيي، يشكله عاملان يتحركان داخل النفس البشرية بشكل متزامن أثناء التوقف أمام عمل ما؛ مع الأخذ في الاعتبار أن توقفنا في حد ذاته جزء من عملية الإبداع. فمعنى أن يلفت انتباهك شيء، ويوقف مجرى تفكيرك لبرهة، فهذا استفزاز مشروع ولكنه ليس «تذوقاً»؛ ولكن أن تأخذ هذه البرهة زمناً أطول، وتذهب في تفكيرك إلى مجرى آخر نحو العمل، فهذا يعني ابتداء عملية «التذوق».
في تلك اللحظة بالذات يتحرك عاملان مهمان: الأول «التربية» لدورها في بناء الاستعداد النفسي لدى المتلقي لاستقبال الجمال، والثاني وهو «الوعي» وينشأ بالشُغل على الذات بالسماح لها بالاطلاع المستمر والمتعمد لكل مختلف لتهيئة حالة الاستعداد وترقيتها، بتسليط الحواس على الأعمال الإبداعية المختلفة،
وهو الشق المعرفي في العمليات التي تغلف الحاسة أثناء استقبال العمل؛ ولذلك آثار عديدة، منها اكتشاف إيحاءات النص وما هو مخفي فيه، وكذلك ملء أي فراغ تركه المبدع بقصد أو من دون ذلك لتحفيز المتلقي للتماهي في عمله، وكذلك قدرة المتلقي على التكيف مع أي عمل من أي عصر، والأهم من وجهة نظري التعامل مع العمل من دون إنزال أحكام اجتماعية عليه. داخل كل تلك التفاصيل وغيرها. يتشكل العاملان المكونان للعمليات الشعورية والمعرفية المحققان لإدراك الجمال، وبتبايناتهما الأكيدة بيننا كبشر، ينشأ الإبداع.