جدة – البلاد
تولي المملكة أهمية قصوى لتطوير قدراتها في مجال الذكاء الاصطناعي، ومواكبة آخر التطورات التكنولوجية في العالم ، ولعل الإشارة الرمزية بالغة الدلالة انطلقت من خلال الروبوت (صوفيا) ومنحها الجنسية السعودية تأكيدا لانطلاقة المملكة نحو عصر جديد من التقدم التقني ، ضمن مستهدفات رؤية 2030 ، التي يرعاها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ، ويقود انجازها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز – حفظهما الله – باعتبار هذه التقنيات المتقدمة ستمثل عصب الاقتصاد العالمي في المستقبل القريب الذي يتحتم مواكبته بإرادة سعودية رائدة.
الذكاء الاصطناعي يعرّفه العلماء بأنه علم هندسة صنع آلات ذكية، وبات يرتبط بالتقنيات والتطبيقات بالغة التطور ، وخلال السنوات الأخيرة دخلت الروبوتات تصنيع السيارات الذكية، واستخدامها في مجالات شتى بالعالم المتقدم ، كالمستشفيات الذكية، وكذا المدارس والمنازل الذكية، والمجالات الأمنية كالكشف عن المخدرات وفي البصمة الوراثية ، أيضا خدمات البريد الإلكتروني والبحث عن الصور والبحث بالصوت وغير ذلك كثير من مجالات الحياة.
ويتوقع خبراء الاقتصاد أن تحقق المملكة عوائد اقتصادية من مشروعات الذكاء الاصطناعي بنحو 12.4% من ناتجها المحلى الإجمالي وهو ما يعادل بأكثر من 135.2 مليار دولار ، وذلك مع موعد استكمال مراحل الرؤية، فيما تحقق دول مجلس التعاون الخليجي نسبة 8.2 % .
** شراكات سعودية عالمية
خلال زيارته المطولة والموسعة إلى الولايات المتحدة في إبريل من العام الماضي ، حرص ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ، على تدشين انطلاقة جديدة لعصر الذكاء الاصطناعي في المملكة ، حيث قام سموه بزيارات مهمة لوادي السيليكون ولقاءاته مع رؤساء كبريات الشركات العالمية الرائدة في صناعة التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي ، وتوقيع المملكة لشراكات واتفاقيات ومذكرات تفاهم عديدة مع عمالقة هذه الصناعات ، ومنها شركة مايكروسوفت ، لدعم التحول الرقمي والابتكار القائم على المعرفة في المملكة، وتدريب وتأهيل الكفاءات الوطنية، وترتكز شراكة المملكة مع مايكروسوفت في المرحلة الحالية على التعاون في مجالين أساسيين:
الأول، التحول الرقمي، والثاني، مجال التدريب، مثل مبادرة “السعودية تبرمج”، التي أطلقتها مؤسسة مسك الخيرية بالشراكة مع مايكروسوفت ووزارة التعليم، بالتزامن مع ساعة البرمجة العالمية من قِبَل منظمة (Code.org) بهدف تعزيز ثقافة البرمجة وبناء المهارات اللازمة للطلاب السعوديين.
أيضا حققت المملكة خطوة مهمة في هذا الاتجاه ، من خلال مساهمتها مؤخرا في صندوق “سوفت بنك” مع دولة اليابان والذي سيخصص جزء من استثماراته في مجال التطوير التقني للذكاء الصناعي، وتبلغ اسثتمارات الصندوق ( 100 مليار دولار) تساهم فيها المملكة بـ (45 مليار دولار ) على مدار خمس سنوات، لتعزيز استثماراتها المتقدمة على مستوى العالم وعلى رأسها الذكاء الصناعي ، وتطوير صناعة الروبواتات حيث يتسابق العالم المتقدم في البحوث والتطور التقني في هذا المجال مثل إنتاج الروبوتات أو السيارات ذاتية القيادة أو الطائرات بدون طيار (الدرونز).
وتجسيدا لاهتمام المملكة بمستقبل الذكاء الاصطناعي ، جاءت رعايتها لفعاليات القمة العالمية الثانية للذكاء الاصطناعي، التي اقيمت في مايو الماضي بمدينة جنيف السويسرية ، حيث شاركت بوفد متميز من مختصين وباحثين ورواد أعمال من البارزين في مجال الذكاء الاصطناعي ، واستهدفت القمة تعزيز الاستفادة من التقنيات المتقدمة في دفع عجلة التقدم نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة ، من خلال استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي ، ومنها تقديم فرص جديدة لاكتشافات طبية أكثر تقدما.
نيوم مدينة الذكاء
في هذا السياق يمثل مشروع “نيوم” أحد العناوين المضيئة لاهتمام المملكة بالمشروعات السعودية التي يجري تأسيسها بالكامل وفق تقنيات الذكاء الاصطناعي، فالتصميمات الإنشائية للمشروع مبنية على جعله مدينة ذكية في البنية التحتية والطرق ووسائل المواصلات والاتصالات التي ستتوفر بجودة عالية، وإتمام المعاملات عن طريق المترجم الآلي ، وفي هذا ستركز منطقة نيوم على تسعة قطاعات استثمارية متخصصة تستهدف مستقبل الحضارة الإنسانية،
حيث سيتم تشييد المشروع على أرض بكر واعدة، ما يمنحها فرصاً استثنائية في التصميمات الذكية والاستثمارات والعوائد ، وهو ما وصفه بيل ماكديرموت الرئيس التنفيذي لشركة برمجيات الأعمال (إس إيه بي) بـ “الإقبال الجريء” للمملكة على استخدام الذكاء الاصطناعي بهدف المساهمة في تحقيق أهداف التنمية الوطنية الواردة في رؤية 2030، لتكون أساساً متيناً تقوم عليه مدينة نيوم الذكية التي تعد مثالا ممتازا على دمج الابتكار الحقيقي في البنية التحتية الحضرية عبر تشغيل السيارات ذاتية القيادة وإدارة المباني الذكية والخدمات التنقلية المتقدمة، والارتقاء بمستوى المعيشة ، مشيدا بالشباب السعودي ، الذي قال عنه “إنه من أبناء جيل الألفية ” متوقّعاً أن تنطوي أماكن العمل في المستقبل على وظائف “لا يمكن لأحد تخيُّلها حتى الآن”.
اقتصاد المستقبل
وعلى ضوء التنامي المتسارع في ابحاث وتقنيات الذكاء الاصطناعي ، توقعت دراسات أن يكون له دور جوهري في إحداث تحولات جذرية في مفهوم الاقتصاد وطبيعته المستقبلية ، بقدرته على المساهمة بأكثر من 15 تريليون دولار بحلول عام 2030 م ، وهو ما يزيد عن الناتج الاجمالي الحالي للصين والهند معا ، فيما كشفت دراسة حديثة أعدتها شركة الأبحاث «جارتنر» أن الذكاء الاصطناعي سيوفر 2.3 مليون وظيفة حول العالم العام القادم 2020م.
ويشير الخبراء إلى أنه من المتوقع أن يحقق الشرق الأوسط نسبة 2% من إجمالي فوائد التحول العالمي نحو الذكاء الاصطناعي والتقنيات التكنولوجية المتقدمة بحلول عام 2030 وهذا ما يعادل بنحو 320 مليار دولار، كما توقعوا أن يساهم الذكاء الاصطناعي في النمو الاقتصادي السنوي بنحو 34-20% في منطقة الشرق الأوسط تتقدمهم المملكة العربية السعودية والإمارات، الأمر الذى سيضع كل من البلدين ضمن أفضل 50 دولة في العالم على مؤشر الابتكار العالمي من حيث القدرة على الابتكار ومخرجات ابتكاراتهم.
ويؤكد الخبراء أن السياحة تعد من القطاعات الأكثر استهدافا لمستقبل تقنيات الذكاء الاصطناعي ، ودللوا على ذلك بمشروع “نيوم” وغيره من المشاريع التي ستجعل المملكة في مصاف دول العالم المتقدم، خاصة مع استثماراته غير المسبوقة التي تقدر بنصف تريليون ريال ، وستتطلب توفير آلاف المتخصصين والفنيين حول برامج الذكاء الاصطناعي التي تشكل عالم الإبداع والابتكار عبر تطوير التكنولوجيا والروبوتات في قطاعات متقدمة دون تدخل بشري، باستخدام آخر ما توصلت إليه البشرية.
ورب سائل عن طبيعة استخدامات هذه التقنية المستقبلية للذكاء الاصطناعي ومدى تأثيرها على الوظائف والمهام البشرية مما قد يسهم في زيادة البطالة في العالم، وعن ذلك يوضح خبراء التقنية أن مهمة تقنيات الذكاء الاصطناعي تتمثل في توفير المعلومات الاليكرونية والمترجم الآلي على سبيل المثال ، وكذلك نظم التشغيل الأكثر كفاءة ودقة ، كما هو في نظام (الطيار الآلي) المعروف منذ سنوات طويلة في الطائرات والذي يقوم استخدام الذكاء الاصطناعي لكنه لايغني عن مهمة الطيار البشري وطواقم الطائرات . وقبل أيام قالت شركة مانباور للتوظيف في دراسة مسحية حديثة إن المخاوف من أن الروبوتات ستسرق وظائف الناس لا أساس لها ، خاصة مع تزايد عدد الشركات التي تخطط لزيادة القوى العاملة أو الحفاظ عليها نتيجة التشغيل الآلي.
واستطلع التقرير آراء 19 ألف شركة في 44 دولة وخلص إلى أن 69% من الشركات أعلنت الحفاظ على حجم قوتها العاملة، بينما أرادت 18% من الشركات تعيين المزيد من الأشخاص نتيجة التشغيل الآلي. وكانت هذه أعلى نتيجة في 3 سنوات ، كما أشار التقرير إلى أن 24% من الشركات التي ستستثمر في التشغيل الآلي والتقنيات الرقمية خلال العامين المقبلين تعتزم زيادة الوظائف مقارنة بنحو 18% من الشركات التي لن تستثمر في التشغيل الآلي.
هكذا تبدو الفوائد العظيمة في استثمار واستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي التي ستسهم في رفع جودة الأداء، والتقليل من الأخطاء وخلق دائرة عمل مبتكرة تضمن استمرارية الجودة والتطور دون الاستغناء عن دور الإنسان، كما سيسهم في خلق مفاهيم جديدة للتعليم وتقديم الخدمات وتطوير بيئة العمل ، فهذا التقدم التقني وتوسع استخداماته يتم تدريجيا، وسيسهم في خلق وظائف جديدة ترتبط بالذكاء الاصطناعى لكنها تقوم على العامل البشرى ، مثلما سيسهم سريعا في إعادة رسم الهيكل الاقتصادي العالمي.