قضية

المعنفون والضحايا .. مأساة خلف الأبواب المغلقة

جدة ـ نجود النهدي – حليمة أحمد

لا يكاد يخلو مجتمع على ظهر الأرض، كبيراً كان أو صغيراً، متحضراً أو متخلفاً من ظاهرة العنف الأسري، في جميع الطبقات الاجتماعية والاقتصادية، ولكن بنسب متفاوتة، وفي كثير من الأحيان تكون المعلومات ضئيلة ولا تعكس حجم المأساة، فأهم ما يميز مرتكبي العنف هو قدرتهم على خداع الآخرين وعلى الاستغلال البشع لقانون العيب، فمن يستمع لزوجة تشكو علنا ضرب زوجها لها وكم من لائم لطفلة تصرخ في قسم شرطة والدتها لأنها تكويها بالنار في أجزاء متفرقة من جسدها. ستجد الكثيرين أمام الجميع يتسمون بالهدوء الذي قد يصل إلى حد البرود، ويبدون وكأنهم أشخاص مثاليون، إلا أن هذه المثالية تنقلب إلى حال آخر داخل المنازل، وفي الغالب يظل طي الكتمان لا يعرف أحد عنه شيئا بسبب سطوة مرتكب العنف أو مفاهيم اجتماعية متوارثة تمنع الكشف عنه أو تعتبره شيئا طبيعيا. ولا يقتصر مفهوم العنف الأسري على الإيذاء البدني كما يظن كثير من الناس، بل يتعداه إلى كل أذى بأحد أفراد الأسرة باستخدام القوة المادية أو المعنوية بطريقة غير مشروعة. اذ ان للعنف عدة أشكال منها الاعتداء الجسدي، والتهديد النفسي كالاستبداد، والتخويف، والاعتداء السلبي الخفي كالإهمال، والحرمان الاقتصادي، وكل هذه الأشكال من الإيذاء تترك أثرها في نفسية المتعرض للعنف بنسب متفاوتة. تقول سيدة في العقد الرابع من عمرها أنها وأبناءها الـ 5 تعرضوا إلى عنف جسدي من زوجها والد الأبناء، مما أدى إلى خروجهم من المنزل، وطلب يد العون من الجهات المعنية. وأكدت السيدة أنها عانت هي وأطفالها خلال الأشهر الماضية، إذ قام الزوج باحتجاز الأسرة داخل المنزل، بعد ضربهم بقسوة وتعنيفهم وتجويعهم، مؤكدة أنها تقدمت ببلاغ رسمي إلى الشرطة التي أحالت الملف إلى الدوريات الأمنية.

ضحايا المدمن
وتقول «م.ع» 27 عاما أنها صبرت كما تقول على الضرب المتوالي والمتكرر لمدة 6 سنوات تعرضت خلالها وطفلتها لأشد أنواع التعذيب والإهانة من زوج مدمن على المخدرات لا يفقه في التعامل الزوجي الا القسوة بينما كانت تجهل آنذاك الحلول أو الطرق الصحيحة للتخلص منه، لتقرر ذات مساء الهروب من المنزل وهي تحمل طفلتها ذات السنوات الثلاث لتهيم في الشارع بحثًا عن مأوى يحميها لتتلقفها أيادٍ نذرت نفسها «للعمل التطوعي « والتي كانت هي الملاذ الآمن سكنًا وعلاجًا نفسيًا وتوعية ومساعدة في طريقة اتخاذ الإجراءات القانونية لتكمل مسيرتها في حياة آمنة، وخضعت للعلاج من الإيذاء الجسدي والنفسي ووفر لها السكن وأدخلت في برامج تعليمية بدورات متقدمة في الحاسب الآلي لتتمكن اليوم من شغل وظيفة تحفظ ماء وجهها وتعينها على تربية أبنائها، بل وتتحول من يائسة محبطة مكلومة الى سيدة منتجة.

دراما محرضة
ويوضح عضو الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان والمستشار النفسي والسلوكي «عبده الأسمري» اسباب العنف الأسري في المطلق ويقول إنها متعددة وتعود الى تعاطي المخدرات، وجود أمراض نفسية او أزمات واجهتها النفس في مرحلة من المراحل العمرية يتولد عنها عنف، أيضا بسبب ضعف الوازع الديني، التسلط الذكوري والرغبة الملحة في تعريض نقص خفي لدى المتورط في العنف، الخبرات المؤلمة، الفشل الدراسي او الوظيفي او وجود مشكلات للإنسان وأزمات مع آخرين يفرغها في هيئة سلوكيات عنف تجاه الأسرة.
وعن علاقة العنف الاسري بالوضع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للأسرة؛ يقول الاسمري: نعم هنالك ارتباط أولا بثقافة الشخص المدان بالعنف وعادة تتحكم المستويات الدراسية أو الوظيفية للشخص في صدور سلوكيات عنف، ولكنها قليلة، ولكن أيضا في أحايين مختلفة تتسبب تداعيات الفشل الوظيفي أو الدراسي أو الأزمات المالية في صدور عنف من الشخص الواقع تحت وطأتها.
وعن إذا كان هناك تأثير للتقنية الحديثة في زيادة حالات العنف الأسري يؤكد قائلا: طبعا بكل تأكيد ومن ذلك التوجيه السلبي والمضلل والموجه للدراما في شيوع العنف وهذا ما نشاهده في المسلسلات والأفلام والتي قد يصل الأمر من خلالها الى حدوث محاكاة و

توظيف للتجربة وإسقاط للمشهد العنيف في دائرة الأسرة وتؤثر هذه تحديداً في فئة المراهقين والشباب والشواهد كثيرة نظرا لسرعة استثارة جانب العنف لديهم من أجل فرص الاستقلال عن العائلة وأثبات الوجود عن طريق العنف أو وجود مسببات ومنابع لتفريغ الشحنات الانفعالية على أفراد الاسرة.

سلوكيات اندفاعية
ويرى الطبيب النفسي الدكتور عبد الله الطحيني انه لا يمكن قَولبة مرتكبي العنف في قالب واحد كالاضطراب النفسي وغيره من القوالب التي يخلقها المجتمع أو توحيدهم تحت شخصية واحدة. ويقول: إن الحقيقة التي لابد من معرفتها أن المصاب باضطراب نفسي هو ضحية للعنف أكثر من أن يكون جانيا وأكثر من أي شخص آخر غير مشخص باضطراب نفسي. وبالتشخيص الدقيق يتبين لدينا أن العنف وخصوصا الأسري هو سلوك مختلف النشأة وتحكم نشأته عدة عوامل من أبرزها النشأة في بيئة مُعنِّفة ووجود تاريخ سابق للعنف، تعاطي الكحول والمواد المحظورة، الارتباط ببعض أنماط واضطرابات الشخصية كالشخصية المضادة للمجتمع، بعض الاضطرابات التي تصاحبها السلوكيات الاندفاعية والعوامل كثيرة فيما يخص الفرد نفسه، الأسرة، الأصدقاء أو المجتمع ككل.
‏فيما يخص العلاج والعقاب لمرتكب العنف يقول: كما أسلفت هم ليسوا في قالب واحد منهم من يحتاج العلاج ومنهم من تكون سلوكياته غير ناتجة عن اضطراب نفسي أو عضوي آخر أو بالأصح يصعب تغيير تلك السلوكيات ومنهم من يُجرّم فعله لمعرفته بطبيعة العنف وتبعاته وغيرها من دواعي التجريم حتى وإن كان مصابا باضطراب نفسي. ولكن يجب أن يوجه تركيزنا نحو الضحايا أكثر لأنهم هم الذين بأمسّ الحاجة للدعم النفسي والاجتماعي والحماية من الجهات الرسمية ويجب تعريف الجميع بالخط الساخن لبلاغات العنف الأسري وخط مساندة الطفل وأيضا هيئة حقوق الإنسان وغيرها للحد من تلك الممارسات وحماية الضحايا وردع الجُناة.

عقوبة موحدة
ومن الناحية القانونية يقول المستشار القانوني فارس الصويان: بشكل عام ذكرت النيابة العامة أن من يرتكب الإيذاء، من منطلق وجود ولاية، أو سلطة، أو مسؤولية، أو بسبب رابط أسري، أو علاقة إعالة، أو كفالة، أو وصاية، يعاقب بالسجن مدة تصل إلى سنة وبغرامة مالية تصل إلى 50,000 ريال، أو بهما معا، وفي حال تكرار أي حالة من حالات الإيذاء مرة أخرى، تضاعف العقوبة.
و حول تدرج العقوبة حسب حجم وأثر العنف يقول إنها موحدة لكل من يرتكب الايذاء النفسي والجسدي وهى غرامة مالية يصل قدرها 50,000 وفي حال تكرار الإيذاء تضاعف العقوبة والعقوبة عائده للجهة القضائية بتقديرها حسب سلطتها التقديرية.
ويروي انه كان يباشر دعوى حضانة وتطلب الأمر حضور المحضونين لتخييرهم من قبل فضيلة القاضي إلا أن والدهم رفض احضارهم وطلبنا من فضيلة القاضي الكتابة لوحدة الحماية من الإيذاء للشخوص على حالة المحضونين وتم تكليف أخصائية لزيارتهم في منزل والدهم وتم اعداد تقرير بالزيارة وإرساله لفضيلة القاضي، مؤكدا انه لا يحق لمن يمارس حالات العنف منع الجهات المختصة من مباشرة عملها وإن تطلب ذلك يحق لوحدة الحماية من الإيذاء الاستعانة بالجهات الأمنية لمباشرة الحالة.

انحراف الفطرة
وأوضح الدكتور عبدالرحمن الرفدي عميد كلية التربية الإسلامية بجامعة الأمير سطام في الخرج كيف يتعامل الإسلام مع العنف الأسري بقوله: العنف بما يحمله من مدلولات الاعتداء والغلظة والإساءة غير مقبول في شريعة الإسلام السمحة التي أقامت البناء الأسري على أساس المودة والرحمة كما في قوله تعالى: «وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً»، وحث على الرفق في التعامل عموماً، وداخل الأسرة على وجه الخصوص، ففي الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: «يا عائشةُ، ارْفِقي؛ فإنَّ الله إذا أرادَ بأهْلِ بيْتٍ خَيْراً أدْخَلَ عليهمُ الرفْقَ». وهذه منطلقات شرعية تؤسس لبناء أسري متين متماسك، أواصر العلاقة بين أفرادها وثيقة، وتمتاز بعوامل الديمومة والاستمرار من جهة، وبالحماية من دواعي التحلل والفساد من جهة أخرى.
ويضيف: بالتأمل في المدلولات الآنفة للعنف، يدرك الإنسان العاقل أنه لا يصدر إلا عن دافع الظلم والاعتداء، مشوباً بضعف الوازع الديني وانحراف في الفطرة يجعلان المُعَنِّف جريئاً على ارتكاب هذه المعصية مع من يتوقع منه اللطف والرحمة والحماية. ويخطئ هؤلاء عندما يظنون أن تقمص الشخصية المتشددة تجعل المرأة أكثر طاعة، والأولاد أكثر استقامة، وليس الأمر كذلك؛ فإن الانحراف في التعامل يولّد انحرافاً آخر لدى المعنًّفين، وسيظهر ذلك الانحراف ولو بعد حين متمثلا في العقوق والنشوز وسوء الخلق إلا من رحم ربي، وهذا من معاني زوال الخير الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: «مَن ‌أُعطِيَ حَظَّهُ مِن ‌الرِّفق فقد ‌أُعْطِيَ حَظَّهُ مِن الخَيرِ، وَمنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِن ‌الرِّفق، فقد حُرِم حَظَّهُ من الخير».
وإذا كان العنف مرفوضاً من الزوج والأب؛ فإن هنالك جانباً آخر على الزوجة أن تتنبه له، وربما كان أحد مسببات العنف داخل الأسرة، ألا وهو المعاندة والتمرد على نظام الأسرة الشرعي، وأن تعدّ نفسها مساوية للرجل ونداً له في كل شيء، وهذا في الحقيقة من مفسدات العلاقة الأسرية، وله صلة وثيقة بالعنف.
فلا بد إذن من أن تكون المبادئ الأخلاقية الحسنة والضوابط الشرعية حاضرة لدى كافة أفراد الأسرة الواحدة، حتى نرى الأسرة المسلمة المطمئنة الجميلة التي تؤسس لمجتمع راق وآمن ومتكاتف، تسوده معاني التعاون والأخوة.

بلاغات العنف.. كيف
ويوضح مركز بلاغات العنف الأسري آلية الخدمات وطرق استلام والتعامل مع بلاغات العنف الاسري حيث يتم استقبال البلاغات بسرية تامة من المواطنين و المقيمين من كافة مناطق المملكة عن حالات الإيذاء، سواء كانت من أشخاص أو من الجهات الخارجية. وعند تلقي البلاغ يتم التدرج في اتخاذ التدابير اللازمة عند دراسة الشكوى، على أن تعطى الأولوية للإجراءات الإرشادية والإصلاح بين الحالات إن أمكن، وحسب موافقة الحالة التي وقع عليها العنف، والتأكد من أن الإجراءات التي سيتم اتخاذها مع الحالة لن يترتب عليها إلحاق ضرر بالحالة أو أطفالها، خاصة في البلاغات التي لم تصل إلى درجة العنف الخطير. وفي كل الأحوال، تتم مراعاة مصلحة الحالة في كافة الإجراءات المتخذة، لحمايتها من الإيذاء.

ارقام مفزعة
استقبلت مدينة الملك سعود الطبية عام 2020 ممثلة بوحدة الحماية من العنف والإيذاء الأسري نحو 237 عنفا أسريا، خلال العام الميلادي المنصرم. وأوضح قسم وحدة الحماية من العنف والإيذاء في مدينة الملك سعود الطبية أن الحالات تضمنت 173 حالة للكبار، و64 حالة للأطفال، لافتة إلى أن الحالات عولجت من النواحي الجسدية والنفسية والاجتماعية، من خلال عدة إجراءات تبدأ باستقبال حالات العنف. ومن جانب آخر أوضحت دراسة بحثية أن 52% من الأطفال بالمملكة شهدوا عنفًا بين الوالدين، وأشارت إلى أن مشاهدة الأطفال والمراهقين لعنف الوالدين ترفع من نسب تعرضهم للإيذاء، سواء النفسي أو الجسدي أو الإهمال، مقارنة مع من لم يشاهدوا العنف بين الوالدين، وتصدر الإيذاء النفسي بنسبة 97% .. وأضافت الدراسة، التي اجراها برنامج الأمان الأسري في الرياض بعنوان: «العلاقة بين مشاهدة العنف ما بين الوالدين والتعرض للإيذاء في المملكة»، أن ارتفاع نسبة التعرض للإيذاء تشمل الأولاد والبنات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *